هل نحن أصحاء العقول؟
ليس من شكٍّ في أنَّ الرأي السائد بيننا نحن أبناء القرن العشرين هو أنَّنا قومٌ أصحاء العقول. وقد نجد بيننا عددًا كبيرًا من الأفراد ذوي العقول المريضة. غير أنَّ هذه الظاهرة لا تُزعزعُ في نفوسنا الثقة بأنَّ المجتمع في جُملته صحيح العقل. وقد تطوَّر علم الصحة العقلية وتقدَّمت وسائل العلاج فيه إلى درجة تُمكِّننا من رفع مستوى الصحة العقلية عامة بين الناس. وليس ما نُشاهده من انحراف عقلي عند بعض الأفراد سوى حالات استثنائية لا تطعن في القاعدة ولا تهدم النظرية العامة.
هذه هي العقيدة الشائعة بين الناس، بيد أنَّه لا ينبغي لنا أن نأخذ بها في سذاجة وفي غير تمحيصٍ، فقد نكون فيها مغرورين أو مخدوعين. ولو أنَّك تحدَّثتَ إلى رجلٍ بمستشفى الأمراض العقلية ثَبَت اختلال عقله قطعًا وجدتَه يعتقد أنَّه وحْدَه الرجل العاقل وسط عالم كل أفراده مجانين. كما أنَّ الرجل الذي يُصاب بالنورستانيا أو الهِسْتيريا لا يشك في أنَّه إنسان عادي كغيره من الناس، لا يختلف عنهم في شيء إلَّا في الظروف الاستثنائية الشاذة التي أحاطت به وألمَّت بحياته.
أليس من المحتمَل أن يكون حُكمنا على أنفسنا من حيث نحن جماعة كحكم هؤلاء الأفراد المُصابِين في عقولهم على أنفسهم؟
إنَّ الأمر بحاجة إلى بحثٍ عميق وتحليل دقيق لكي ننفذ إلى الحقيقة ونحكم على أنفسنا حكمًا أقربَ إلى الصواب.
لقد استطاع العالم — والعالم الغربي خاصة — في القرن الماضي أن يجمع ثروة مادية ضخمة لم يستطع أن يجمعها أي مجتمع من المجتمعات خلال عصور التاريخ الماضي بَأسْرِه. غير أنَّ دول هذا العالم الغني الثري قد عمدت — برغم هذا الثراء — إلى الفتك بالملايين من البشر فيما أطلقَت عليه اسم «الحروب» وما فَتِئَت الحرب تنشب بين شعب وآخر على صورة صغرى أو صورة كبرى، لا تهدأ ولا تفتُر. وكيف نستطيع أن ننسى في هذه المعركة البشرية المستمرة الحروب العالمية الكبرى التي نشبت في عام ١٨٧٠م وعام ١٩١٤م وعام ١٩٣٩م، تلك الحروب التي كادَت أن تشمل رقعة العالم بأسْره، والتي زعم فيها كل خصم من ناحيته أنَّه يُقاتل دفاعًا عن نفسه، وعن شرفه، وأنَّ الحق معه، والله ناصره، وأنَّ العدو شيطان مُتمرِّد قاسٍ لا بُدَّ من القضاء عليه لكي يتخلَّص العالم من شره. كيف نستطيع أن ننسى ذلك؟ ثمَّ تضع الحرب أوزارها ويُمسي العدو صديقًا والصديق عدوًّا، وتهدأ النفوس فترة، ثمَّ تعود إلى ثورتها ويتأهَّب العالم مرة أخرى إلى الحرب من جديد، وهكذا دواليك. وها نحن اليوم على أعتاب حرب عالمية شاملة الله أعلم بمداها، لو نشبت واسْتُخْدِمت فيها هذه الأسلحة الفتاكة التي اخترعها الإنسان لقضَت على الحرث والزرع، وعلى الإنسان والحيوان، اللهم إلَّا أن تهبط على قادة الشعوب معجزة من السماء فُترُدَّهم عن الغَيِّ إلى الرشد وعن الخطأ إلى طريق الصواب. غير أنَّا نشهد بأعيننا اليوم رجال السياسة وهم يُجنِّدون رجال العلم لتكريس جهودهم للكشف عن الأسلحة التي تُؤدِّي حتمًا إلى الدمار، ولا يكون للإنسانية من ورائها أمل في بقاء. وتتطلَّع الشعوب البريئة إلى زعمائها تلتمس لديهم طريق النجاة، وما درى أبناء هذه الشعوب أنَّ هؤلاء الزعماء أنفسهم هم دعاة الحروب العُتاة، يُدبِّرون لها إن لم يكن عن سوء نية وطوية، فعن سوء إدارة للأمور، وسوء توجيه لِمَا بين أيديهم من سلطان.
إذا كان هذا هو شأن المجتمَع، فهل يصح أن نصفه بالعقل وسلامة التفكير؟
إنَّنا لا نُنكر أنَّ الإنسانية وسط هذا الضجيج والعجيج لا تعدم نفرًا من العقلاء يُنادون بعقد معاهدات الصلح ونشر ألوية السلام في ربوع العالم بأسْره. غير أنَّ قُصارى ما يبذله هؤلاء العُقلاء من جهد لا يعدو أن يكون كلمات مكتوبة وحبرًا على ورق. ولعل من الطريف في هذا الصَّدَد أن نذكر هنا أنَّ أحد المُؤرِّخين الثقاة يُؤكِّد لنا أنَّه فيما بين عام ١٥٠٠م و١٨٦٠م بعد الميلاد وقَّعت الدول ما ينيف على ثمانية آلاف مُعاهَدة للصلح، تهدف كل منها إلى سيادة السلام الدائم بين الشعوب، ولم تَدُم واحدة منها أكثر من عامين!
هذه صورة من الصور التي نصرف بها شئون السياسة. وليست الطريقة التي نُدير بها أمور الاقتصاد في العالم في الوقت الحاضر بأفضل من هذا في شيء، أو مِمَّا يدعو إلى الارتياح وطمأنينة القلوب. فنحن نسمع أحيانًا أنَّ سلعة من السلع قد ازداد إنتاجها في بلد من البلدان إلى درجة تُؤدِّي إلى هبوط سعرها عند بيعها في البلدان الأخرى، مِمَّا يكون له أوخم العواقب في البلد المُنْتِج، فيُحاول هذا البلد أن يتخلَّص من هذه السلعة بإعدامها أو إحراقها أو بأيَّة وسيلة أخرى من هذه الوسائل حتَّى يستتبَّ سِعرُها في السوق ويرتفع، وذلك بالرغم من حاجة الملايين من البشر في مختلف الأقطار إلى هذه السلعة بعينها. وكم من ملايين الجنيهات تُنفقها الدول على التسليح بدلًا من إنفاقها على المساكن الشعبية وما إليها من احتياجات الناس! فهل هذا التصرُّف من العقل في شيء؟!
وكذلك يختلُّ ميزان الثقافة في كل مكانٍ، فما زال عدد الأُميِّين والجُهلاء كثيرًا لا يُحصى. ولدينا من أدوات التثقيف: الإذاعة والتلفزيون ودور السينما والصحف اليومية. بَيْد أنَّ هذه الأدوات بدلًا من أن تنشر بين الناس روائع الأدب القديم والحديث، والعلم الصحيح، والموسيقى الرفيعة؛ تملأ الرءوس عن طريق السمع والبصر بسخافات المعرفة وتَوافِه الأمور، وتَنفُث سمومها في العقول والأذهان.
ولقد اقتضى نظام العمل الحديث الإقلال من ساعات الاشتغال، والإكثار من أوقات الفراغ للموظَّفِين والعُمَّال، فهل هَيَّأْنا لهم ما يشغل هذا الوقت الفائض بما يُفيد أو ينفع؟ إنَّهم يقتلون الوقت في لهوٍ لا يُجدي، ويتسرَّب الملل إلى نفوسهم، ويتثاقل عليهم الزمن في سيره، فيحمدون الله كلما غَرَبت شمس يوم، وأشرقت عليهم شمس يوم جديد.
ليس من شك إذن في أنَّ نُظم المجتمع في السياسة وفي الاقتصاد والثقافة منحرفة مختلة، لا تَفي بحاجات الإنسان، ولا تعمل على إسعاده. غير أنَّ علماء النفس يزعمون برغم هذا أنَّ المجتمع في جملته سليم من الناحية العقلية، ولا يصح وصفه بالمرض. ولا يلحق المرض العقلي إلَّا بعدد من الأفراد لا يستطيعون الانسجام مع المجتمع الذي يُحيط بهم، وتعجز عقولهم عن مسايرة الأوضاع الصحيحة. يزعم هؤلاء الكُتَّاب أنَّ الثقافة التي تسود أمة من الأمم ليست مِمَّا يصح وصفه بالخلل أو الانحراف، وإنَّما المشكلة هي مشكلة الأفراد في وسط ثقافي مُعيَّن. ولكن أريك فروم الذي نعرض في هذا الكتاب آراءه يعتقد أنَّ البيئة الاجتماعية، وبخاصة في المجتمع الغربي، قد تُصيبها العلة ويختل فيها ميزان الثقافة. وهو لا يتعرَّض لأمراض الأفراد العقلية، وإنَّما يُحاول أن يُحلِّل أمراض المجتمع وأن يصف لها العلاج. ولكنَّه قبل أن يُناقش الأمراض الاجتماعية يسرد بعض الحقائق الهامة التي تتعلَّق بأمراض الأفراد العقلية، وبخاصةٍ في بيئة الثقافة الغربية، للاستنارة والإيضاح.
إذا أردنا أن نعرف نسبة انتشار الأمراض العقلية في دول الغرب ورجعنا إلى الإحصاءات الرسمية، تولَّتنا الدهشة لنقصها في هذا المجال، وقصورها عن إمدادنا بما ينبغي. ومن عجب أنَّ الباحث يعثرُ على إحصاءات دقيقة للموارد المادية. ونسبة العمل والتعطُّل، والوفيات والمواليد، ولكنَّه لا يعثر على إحصاء دقيق لأمراض العقل. وقد تجد في بعض الدول إحصاء لعددِ المُصابِين بالأمراض العقلية الذين دخلوا المستشفيات، بيْد أنَّه إحصاء ناقص لا يشمل المرضى الذين لم يدخلوا المستشفيات، وهو إن دلَّ على شيء فإنَّما يدل على مِقدار عناية الدولة بالمصابين أكثر مِمَّا يدل على نسبة انتشار المرض. وإذا علمنا أنَّه في بلد مثل الولايات المتحدة يُخصَّص نصف عدد الأَسِرَّة في المستشفيات للمصابين بأمراض العقل، وأنَّ ملايين الدولارات تُنفق في سبيل علاجها، أدركنا أنَّ الولايات المتحدة تُعْنى أشد العناية بعلاج هذه الأمراض، ولكنَّا لا ندرك مدى انتشارها بين أفراد الشعب. وقد تكون لبعض أرقام الإحصاء التي عَثَرْنا عليها بعض الدِّلالة. فقوائم الإحصاء في بريطانيا تدل على أنَّ ١٧٫٧ في المائة من الذين تقدَّموا للتجنيد في الحرب العالمية الثانية لم يصلحوا للحياة العسكرية لإصابتهم بأمراض عقلية مختلفة. ولا مِراء في أنَّ هذه النسبة تُشير إلى أنَّ عددًا كبيرًا من السُّكَّان في بريطانيا يُعاني اضطرابًا عقليًّا أو انحرافًا في قوة التفكير. ولسنا ندري إن كانت هذه النسبة قد أخذت بعد انتهاء الحرب في الارتفاع أو في الهبوط، كما أنَّا لا ندري إن كانت نسبة كبيرة أو صغيرة إذا قِيست إلى ما يُماثلها في الأقطار الأخرى.
وليس لدينا من الإحصاءات المقارنة ما يُبصرنا بعض الشيء بمدى انتشار الصحة العقلية سوى ما يدل على نسبة الانتحار والقتل والإدمان في الشراب. ويجدر بنا في هذا السياق أن نذكر أنَّ الانتحار لا يرتبط قطُّ بالحالة المادية، بل إنَّه ليكاد ينعدم في البُلدان الفقيرة. ويزداد بازدياد الرفاهية والتقدُّم المادي. وليس من شكٍّ في أنَّ شدة الإقبال على تعاطي الخمور دليل على اضطراب العقول والنفوس. ومن المُؤكَّد أنَّ جرائم القتل أقل دلالة على المرض العقلي من حوادث الانتحار، ومن العجيب أنَّ البلاد التي تكثر فيها جرائم القتل تقل فيها حوادث الانتحار. ويزعم فرويد أنَّ الإنسان لديه غريزة يُسميها غريزة الموت، وأنَّ هذه الغريزة مظهر من مظاهر الميل إلى التخريب الكامن في النفوس، وأنَّ هذا الميل شائع بين جميع الشعوب. ولو صدق ما يزعم فرويد لكان مجموع جرائم القتل وحوادث الانتحار معًا نسبة ثابتة لا تتغيَّر بتغيُّر الأمم؛ لأنَّ الغرائز ميول بشرية عامة يتصف بها الناس أجمعون. بيْد أنَّ الإحصاء يدل على أنَّ هذه النسبة تتغيَّر بتغيُّر البلدان، فهي تبلغ ٣٥٫٦٧ من كل مائة ألف بالغ في الدانمارك، وهي أعلى نسبة معروفة، وتبلغ ٤٫٢٤ من هذا العدد في إيرلندة، وهي أدنى حد في جداول الإحصاء التي بين أيدينا لعام ١٩٤٦م. وكذلك تتذبذب نسبة المُصابِين بإدمان الشراب ارتفاعًا وانخفاضًا في مختلف البلدان. مِمَّا يدل على أنَّ القتل والانتحار وإدمان الشراب ليست من مظاهر غريزة الموت، أو غريزة التخريب، التي ألمع إليها فرويد، وإلَّا كانت النسبة ثابتة في مختلف الأمم، وإنَّما هي من دلائل الاضطرابات العقلية تزداد في أمة وتقل في أخرى. ومن طريف الإحصاءات أنَّ حوادث الانتحار تطَّرد في الزيادة مع ازدياد الإقبال على تعاطي الخمور بإدمان قاتل فتَّاك. وفي ذلك دلالة واضحة على أنَّ هاتين الظاهرتين من الظواهر التي تُشير إلى اختلال العقل واضطراب ميزانه.
ويدل الإحصاء على أنَّ أكثر البلدان الأوربية ديمقراطية وأمنًا ورفاهية، وأنَّ الولايات المتحدة، وهي أكثر بلدان العالم انتعاشًا من الناحية الاقتصادية، هي البلاد التي تزداد فيها نسبة الاضطراب العقلي. كُلَّما تقدَّمَت البلاد اجتماعيًّا واقتصاديًّا، وتوفَّرت فيها أسباب الراحة، واعتدل فيها توزيع الثروة، واستقر فيها الأمن والحكم الديمقراطي، ازداد فيها ميزان العقل اختلالًا! أفلا يُمكن أن يكون في أسلوب حياتنا أمر مختلٌّ من أساسه، وأن تكون الأغراض التي تهدف إلى تحقيقها فاسدة في صميمها؟
ربما كان رغَد العيش مِمَّا يفي بحاجات الإنسان المادية، ولكنَّه يبعث في نفوسنا الملل، فيدفعنا إلى إدمان الشراب وإلى الانتحار للتخلُّص من حالة الضجر التي لا تُطاق. إنَّ أرقام الإحصاء تدلنا على أنَّ الإنسان لا يعيش على الخبز وحده، وأنَّ المدنية تقصر عن بثِّ الطمأنينة في النفوس، ولا تفي ببعض حاجات الإنسان العميقة الخفيَّة. وإن كان الأمر كذلك فماذا عسى أن تكون هذه الحاجات؟
إنَّ الفصول التالية من هذا الكتاب مُحاوَلة للإجابة عن هذا السؤال، كما أنَّ فيها تقديمًا لأثرِ الثقافة الغربية المعاصرة في صِحة العقل، وفي سلامة الشعوب التي تعيش في ظل النُّظم الراهنة من الناحية العقلية. ويجدر بنا قبل أن نتعمَّق في البحث في هذه الأمور أن نعرِض لمشكلة الأمراض الاجتماعية عامة، وهي القاعدة التي على أساسها نُقيِّم كل ما نُقدِّمه في هذا الكتاب من آراءٍ.