هل يكون المجتمع مريضًا؟
لهذا السؤال إجابتان تُمثِّلان اتجاهين مختلفين متعارضين في موضوع الصحة العقلية للمجتمع:
أمَّا الاتجاه الأول فهو أنَّ المجتمع كالفرد قد يكون مريضًا وقد يكون سليمًا.
أمَّا الاتجاه الثاني الذي تأخذ به فئةٌ من علماء الاجتماع فهو أنَّ المرض من صفات الأفراد وليس من صفات المجتمَعات. كل مجتمع سليم من الناحية العقلية يؤدِّي وظيفته التي من أجلها وُجِدَ. وليست الحالة المرضية إلَّا صفة للفرد الذي يعجز عن التوفيق بين ميوله الطبيعية وأساليب الحياة في المجتمع الذي يعيش فيه.
وإذا أخذنا بالرأي الأول الذي يقول بأنَّ المجتمع يُمكن أن يكون سليمًا كما يُمكن أن يكون مريضًا تحتَّم أن تكون هناك معايير عالمية للصحة العقلية نقيس بها صحة المجتمع. ويقوم هذا الافتراض على بعض الأُسس التي لا بُدَّ لنا من التسليم بها.
فالإنسان من حيث هو جنس من الأجناس لا يتميَّز بمميزات فسيولوجية فحسب، وإنَّما يتصف أفراده كذلك بصفات نفسية مشتركة، ويخضعون جميعًا للقوانين التي تتحكَّم في اتجاهات عقولهم وعواطفهم، كما يتَّفقون على حلٍّ واحد لمشكلة الوجود الإنساني، وأقصد بها مشكلة ظهور الإنسان من حيث هو إنسان مُتميِّز عن الحيوان، لا يخضع للطبيعة خضوعًا مُطلقًا، بل يحاول أن يُسيطر عليها ويتحكَّم فيها، واعٍ بنفسه، مُدْرِك لذاته، مُفكِّر في نفسه وفيما حوله، أقرب إلى الانفصال عن الطبيعة وعن بقية الكائنات منه إلى الاتصال بها، فهو في وضع مُختلف عن بقية المخلوقات، وعليه أن يُواجه هذا الوضع الجديد. ومن الحق أن يُقال إنَّ عِلْمنا بالإنسان لا يزال قاصرًا عن أن يُمكننا من تعريفه بالمعنى السيكولوجي. ولا مندوحةَ لنا عن الإمعان في التفكير وإعنات الذهن إنْ أردنا أن نجد للطبيعة الإنسانية تعريفًا ينطبق على الأفراد في مختلف البيئات والمجتمَعات والثقافات، بحيث نستطيع أن نحكم على هذه الطبيعة البشرية إنْ كانت تنحرف أو تسير في اتجاه سليم سوِيٍّ. ويتحتَّم علينا كذلك أن نكشف عن القوانين الكامنة في الطبيعة البشرية، وعن الأهداف الكامنة التي تتَّجه نحوها هذه الطبيعة في تطوُّرها ونموها. فالجنس البشري خلال تطوُّره التاريخي لا يتطوَّر إلَّا في حدود إمكانياته الطبيعية، كالطفل يُولَد مُزوَّدًا بكل الإمكانيات البشرية التي تتطوَّر بفعل البيئة الاجتماعية والثقافة التي تُحيط به.
وإذا اعتقدنا أنَّ المجتمع قد يكون سليمًا وقد يكون مريضًا، وأنَّ لذلك مقاييس محدودة معروفة، تُحتِّم علينا أن نؤمن بأنَّ لمشكلة الوجود الإنساني، أو غربة الإنسان في الكون، ووحشته في الوجود، وشذوذه بسيكولوجيته الخاصة عن كافة الكائنات، تُحتِّم علينا أن نؤمن بأنَّ لهذه المشكلة حلولًا صائبة وأخرى خاطئة، حلولًا تفي بحاجات النفس وأخرى لا تفي بها. وتتحقَّق الصحة العقلية إذا تطوَّر الإنسان إلى أقصى حدود الرشد طبقًا لمُميِّزات الطبيعة البشرية وقوانينها. ويُصاب الإنسان بالمرض العقلي إذا عجز عن تحقيق هذا التطوُّر. ومعيار الصحة العقلية على هذا الأساس لا يكون في التوفيق بين الفرد ونظام اجتماعي مُعيَّن، وإنَّما هو معيار عام عالمي، ينطبق على الناس أجمعين، وهو الاهتداء إلى حل مُرضٍ لمشكلة الوجود الإنساني، يكفل للمجتمع الإنساني انسجامه مع الطبيعة، ويُبعِد القلق عن النفوس، ويردها إلى الاتصال بالطبيعة التي انفصلت عنها، فيبعث فيها الطمأنينة والارتياح.
ومِمَّا يدعو إلى الخطأ في تقدير الحالة العقلية لمجتمع من المجتمعات، والحكم عليها بالصحة أو بالمرض، إجماع الرأي بين أفراد هذا المجتمع على حكم واحد. إذ إنَّ اشتراك الأغلبية في رأي مُعيَّنٍ أو شعور مُعيَّن لا يدل على صحة هذا الرأي أو ذاك الشعور. والإجماع في هذه الحالة لا يدل على صحة العقل أو سلامة الحكم. فاشتراك الملايين في رذيلة من الرذائل لا يجعل من هذه الرذيلة فضيلة، كما أنَّ اشتراكهم في خطأ من الأخطاء لا يجعل من هذا الخطأ صوابًا، واشتراكهم في حالة عقلية مُعيَّنة لا يدل على سلامة عقولهم.
وهناك فارق هام بين المرض العقلي عند الفرد والمرض العقلي عند الجماعة، لا بُدَّ لنا من التنويه عنه في هذا السياق. فمرض الفرد «شذوذٌ» يُعاب عليه، ومرض المجتمع «نقصٌ» عند أكثر الناس لا يُعدُّ عَيبًا فيهم لشيوعه وانتشاره. فإذا كانت الحرية والتلقائية والتعبير الصادق عن النفس — مثلًا — من الأهداف التي ينبغي لكل فرد أن يُحقِّقها، وحقَّقتها أكثرية الناس، كان الرجل الذي يفشل في تحقيقها شاذًّا في هذا المجتمَع؛ أمَّا إذا فشلت في تحقيقها أكثرية الناس فحينئذٍ يُعدُّ هذا الفشل «نقصًا» اجتماعيًّا، ولا يكون الفرد في هذه الحالة شاذًّا أو معيبًا؛ لأنَّه يُشارك في نقصه الكثيرين، ولا يُدرك أنَّه عَيب من العيوب، ولا تتعرَّض نفسه المطمئِنَّة للإحساس بالشذوذ. وهو قد لا يكون سعيدًا في هذه الحالة، غير أنَّ إحساسه بالانسجام مع بقية أفراد المجتمع يُعوِّضه ما يَفقده من شعور بالسعادة الحقة. بل لقد يكون هذا النقص عينه الذي يشكوه فضيلة من الفضائل في جوِّ الثقافة الذي يعيش فيه، فيشعر شعورًا قويًّا بتحقيقه هدفًا من أهداف المجتمع.
خذ لذلك مثلًا، الرجل الذي يغلبه الشعور بالعجز والتفاهة في هذه الدنيا، الرجل الذي لا يبرح مُخَيِّلته الخوف من مصيره في الدار الآخرة، الذي يخشى في كل عمل يؤديه أن يقترف إثمًا من الآثام، يُحس دائمًا بالقلق وارتكاب الذنب، ولا تعرف المتعة الخالصة إلى قلبه سبيلًا. إنَّ مثل هذا الرجل يُعاني نقصًا بالغًا، ولكنَّه طبيعي في وسط كالوسط الذي ساد أوربا إبَّان حركة الإصلاح الديني لعهد كَالْفِن. فقد كانت ثقافة ذلك العهد تُبرِّر مثل هذا الشعور، وكان لهذا النقص قيمته، لا يُحس صاحبه بالشذوذ الذي يُحسه لو كان يعيش في وسط ثقافي آخر، يكون فيه هذا النقص باعثًا على الشعور بالعزلة والتخلُّف.
وإليك مثالًا آخر: كَمْ مِن رجل يُؤدِّي عمله اليوم وكأنَّه إنسان آلي، لا يُعبِّر عن نفسه تعبيرًا صادقًا، ولا يتصرَّف كما يُريد ولكن كما ينبغي له أن يتصرَّف، يُعبِّر عن سروره بابتسامة مُصطَنعة ترتسم على شَفتيه، لا بضحكة عالية تخرج من قلبه، يتحدَّث من طرف لسانه لا من صميم فؤاده. إنَّ مثل هذا الرجل يُعاني نقصًا في تلقائيَّتِه وفرديته ليس له علاج، ولكنَّه في الوقت ذاته لا يشذ ولا يتخلَّف عن الملايين الآخَرِين من أمثاله، فالثقافة التي تسود بيئته تُمكِّنه من أن يعيش ناقصًا، دون أن يكون شاذًّا، أو مريضًا. إنَّ الثقافة السائدة كفيلة بأن تحمي حالة النقص وتُدافع عنها، فيُحس صاحبها بأنَّه طبيعي ولا تتحوَّل حالته إلى حالة من حالات الشذوذ.
وفي الحضارة التي نعيش فيها حِيل وأساليب تُخْفِي عن الناس ما بهم من نقص اجتماعي فلا يرونه ولا يحسونه. وأهم هذه الحيل السينما والراديو والتليفزيون والمباريات الرياضية العامة والصحف. إنَّها مَخارِج يهرب إليها المرء من واقعه. ولست أشكُّ في أنَّك لو أغلقت دور السينما وأسكَتَّ صوت الراديو وطمست لوحة التليفزيون وحرَّمت إقامة المباريات الرياضية، قُرابة شهر من الزمان، لو فعلتَ ذلك لانهارت أعصاب الألوف من البشر مِمَّن أَلِفوا هذه الحيل في هذا الوقت الوجيز، وأُصيبت ألوف أخرى بالقلق والاضطراب الشديد الذي يُدْنيهم من حالة النورستانيا. إنَّ هذه الحيل أشبه بالمُخدِّرات التي يَخفَى عمَّن يتناولها كثير من عيوبها، فإن هو كفَّ عنها أدرك ما بنفسه من نقصٍ، وظهرَت عليه أعراض الشذوذ أو المرض.
أجرى أريك فروم التجربة الآتية مع عددٍ من طلاب الجامعة التي يعمل أستاذًا فيها. طلب إلى كل منهم أن يتصوَّر أنَّه قد حُكِمَ عليه بالحبس منفردًا في غرفته لمدة ثلاثة أيام، لا يستمع فيها إلى إذاعة أو يقرأ أدبًا خفيفًا، مع إمداده بالكتب الأدبية الدسمة والطعام الجيد وأسباب الراحة البدنية، فكيف يستجيب إلى هذا الموقف؟ وقد أجاب تسعون في المائة من الطُّلَّاب أنَّهم يُحسُّون بالضَّجر الشديد والقلق المتزايد الذي يتغلَّبون عليه إمَّا بالنوم العميق أو بالأعمال التافهة حتَّى تنتهي فترة الحبس الانفرادي. ولم تتخيَّل إلَّا قلة منهم الإحساس بالطمأنينة والمُتعة التي تبعثها خلوتهم إلى نفوسهم. أي إنَّ الإنسان في عصر الحضارة الحديثة لا يستطيع أن يكتفي بذاته وأن يستغرق في تأمُّلاته لا يخضع لمؤثر خارجي يُلهيه عن نفسه ويصرفه عن تفكُّره. ومن ثمَّ فهو إنسان ناقص التكوين الشخصي، غير أنَّ إلحاح السينما والراديو عليه لا يُنبِّهه إلى هذا العيب في نفسه، فلا يُحس المرض النفسي، ولا يُحس عن المجتمع شذوذًا.
وهناك قلة من الناس لا تُجدي معهم هذه المُخدِّرات الثقافية ولا تنفع لهم دواءً علاجًا، وهذه القِلة على نوعين: نوع — وهو الأغلب — تزداد عنده حالة النقص الفردي عنها عند أوساط الناس، فلا تكفي الثقافة السائدة علاجًا لحالته، فتبدو عليه الحالة المَرَضية، فهو أشبه بمَنْ يشعر بالبرد الشديد، لا تُجدي معه وسائل التدفئة، فتُصيبه الحمى وترتفع حرارته. ومن هذا النوع من تشتد به الرغبة في النفوذ والشهرة إلى درجة غير مألوفة، فتراه بدلًا من أن يبذل الجهد في سبيل تحقيق رغبته ينتظر حدوث المعجزات تهبط عليه لتمنحه النفوذ الذي يشتهيه، وبدلًا من أن يُحقِّق شيئًا مِمَّا يُريد، تفتر همته ويشتد شعوره بالعجز وينتهي به الأمر بإحساسه بمرارة الفشل وشعوره بالتفاهة. والنوع الآخر، يختلف في تكوين شخصيته عن الكثرة العظمى، فلا تُجْدِي معه أنواع العلاج التي تُفيد أكثر الناس. ويتميَّز الأفراد من هذا النوع عن الغالبية العظمى من الناس بزيادة في تَكامُل الشخصية، وإرهاف الحس. ومن ثمَّ فإنَّ المُخدِّرات الثقافية لا تُؤثِّر فيه. وهو في الوقت نفسه لا يقوى على مقاومة التيار العام. النوع الأول يَشذُّ لهبوطه عن المستوى العادي في شخصيته، والثاني يَشذُّ لارتفاعه عن هذا المستوى.
ومِمَّا سبق يتبيَّن أنَّ الإنسان قد يكون فيه نقص نفسي في عصر من العصور، لا يُعدُّ من يتصف به شاذًّا أو مريضًا، إلَّا إذا اشتدت عنده حالة النقص، أو إذا كَمُلت شخصيته وارتفعت عن مستوى الأوساط. والعيوب العامة ليست مِمَّا يسهُل علاجها، فقد كانت لكل عصر من عصور التاريخ عيوبه النفسية التي أدركها نوابغ الباحثين، وعجزوا عن تلافيها؛ لأنَّ الإنسان من طبعه أن يتشبَّث بمعتقداته وميوله وألَّا يخضع للرأي الجديد سَلس الانقياد.
مما لا جدال فيه أنَّ الإنسان على خلاف مع الحيوان؛ يتميَّز بمرونة بَالِغة، فهو يستطيع تقريبًا أن يأكل كل شيء، ويستطيع تقريبًا أن يعيش في كل جوٍّ، وأن يُهيِّئ نفسه لهذا الجو، ويكاد لا يعجز عن احتمال أيَّة حالة من حالات النفس. يستطيع أن يعيش حرًّا وأن يعيش عبدًا، وأن يعيش غنيًّا مترفًا أو فقيرًا مُتقشِّفًا، وأن يعيش في حرب أو في سِلْم، مُعتديًا مغتصِبًا أو متعاونًا متودِّدًا. يستطيع أن يحتمل كل صنوف العيش، وكل صنوف التجارب والمِحن. وقد يدفعنا ذلك إلى الظن بأنَّه ليست هناك طبيعة بشرية واحدة يشترك فيها الناس جميعًا، أو أنَّه ليس هناك جنس بشري إلَّا بالمعنى الفسيولوجي.
بَيْد أنَّ هذا الظن يختلف وحقيقة الأمر وما يؤيده التاريخ. فالطغاة المستبِدُّون ورجال الحكم قد ينجحون في إخضاع الشعوب، ولكنَّهم لا يستطيعون أن يُخمدوا الثورات التي تهب لمقاومتهم. فالشعب المغلوب يفزع ويرتاب ويستوحش، حتَّى تُشَلَّ فيه حركة العمل والتفكير، فينهار النظام الاستبدادي من الداخل، إذا لم يسبق ذلك انهيار من الخارج. يستطيع الطاغية المستَبدُّ أن يُخضع شعبًا بأسْره أو جماعة من الجماعات في هذا الشعب لمدة طويلة، ولكن هذا الشعب، أو تلك المجموعة، لا بُدَّ أن يثور ذات يوم، ولا بُدَّ أن يتمرَّد على الظلم والطغيان، ويُنشئ مجتمعًا جديدًا على أساس أصح وأسلم. وتقوم هذه الثورة على عوامل اقتصادية وسياسية وعلى الجو الروحي الذي يُحيط بالناس. ومعنى ذلك أنَّ النظرية التي تقول بأنَّ الإنسان يستطيع أن يعيش تحت كل ظرف من الظروف ليست صحيحة كل الصحة. والأصح أن نقول إنَّ الإنسان إذا اضطر إلى العيش في ظروف لا تتفق وطبيعته ولا تتفق وحاجاته الأساسية للنمو الإنساني الصحيح فلا بُدَّ أن يثور. وإمَّا أن يتدهور ويفنى، أو يخلق ظروفًا جديدةً تتفق وحاجاته.
ويعتقد فرويد أنَّ الطبيعة البشرية لها مطالب تتعارض مع مطالب المجتمع، ويفترض أنَّ الطبيعة البشرية مُشترَكة بين جميع أفراد الجنس البشري في جميع الثقافات والعصور، ولهذه الطبيعة احتياجات مُعيَّنة؛ غير أنَّ الثقافة أو المدنية تتطوَّر تطوُّرًا يتعارض وحاجات الإنسان. ومن ثمَّ يُصبح المجتمع عليلًا أو مريضًا، وتبدو عليه الظاهرة التي يُسمِّيها فرويد «النورستانيا الاجتماعية» وهي مرض اجتماعي يُظْهِر الجماعة بمظهر يختلف عن المظهر الطبيعي للجماعات، وهو مبحث عسير لم يتبسَّط في شرحه فرويد، وتخلَّى عنه برجاء أن تُتاح لأحد العلماء من بعده الفرصة للغوص فيه.
وليس هذا الكتاب إلَّا محاولة في هذا البحث، وهو يقوم على أساس أنَّ المجتمَع السليم هو المجتمع الذي يتفق وحاجات الإنسان، والمجتمع المريض هو الذي ينحرف في نظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية الثقافية، فلا يُحقِّق بها حاجات الإنسان الطبيعية. ومن أجل هذا كان واجبنا الأول تحديد طبيعة الإنسان، وبيان الحاجات التي تنبثق من هذه الطبيعة، ثمَّ نبحث بعد ذلك في الدور الذي يلعبه المجتمع في تطوُّر الإنسان وفي الصراع الذي يقوم بين الحين والحين، بين الطبيعة البشرية من ناحية، والمجتمع من ناحية أخرى، وما يترتَّب على هذا الصراع، وبخاصة فيما يتعلَّق بالمجتمع الحديث.