حاجات الإنسان الطبيعية
تمهيد: طبيعة الوجود الإنساني
الإنسان من ناحيته البدنية ووظائفه الفسيولوجية يُعتبر جزءًا من مملكة الحيوان. والحيوان يُؤدِّي وظائفه بما لديه من غرائز وما عنده من اتجاهات عملية مُعيَّنة يُحدِّدها بناء عصبي موروث. وكلَّما ارتقى الحيوان في سُلم التطوُّر ازداد مرونة في اتجاهاته العملية، وقلَّ جمودًا في تكوينه البدني وبنائه العصبي الموروث. حتَّى إنَّ الحيوانات العليا لَتتميَّز بنوع من أنواع الذكاء؛ فهي تستخدم التفكير في تحقيق أهدافها وأغراضها، وتستطيع أن تتحلَّل من قيد الغرائز والاتجاهات العملية المُحدَّدة، بَيْدَ أنَّ هناك عناصر وجودية ثابتة في جميع أنواع الحيوان برغم ارتقاء بعضها في سُلم التطوُّر.
فمن العناصر الوجودية الثابتة التي تُلازم الحيوان في جميع مَراتب تطوُّره خضوعه لقوانين الطبيعة البيولوجية، يحيا حياته وفقًا لها وبمقتضاها، فهو جزء من الطبيعة لا يتجاوزها إلى ما وراءها. ليس له ضمير خُلقي، ولا يُدرك نفسه أو وجوده. وليس له عقل، إذا كنَّا بالعقل نَعني القدرة على النفاذ إلى ما وراء المَظاهر المحسوسة، وعلى إدراك الجوهر الذي ينُم عنه المَظهر. ومن ثمَّ فإنَّ الحيوان لا يعرف ما الحقيقة، وإنْ كان ربما يُدرك ما ينفعه.
الوجود الحيواني توفيق بين الحيوان والطبيعة، ولا نعني بذلك أنَّ الظروف الطبيعية لا تكون للحيوان مصدر تهديد شديد فتُرغِمه على القتال المرير من أجل البقاء، وإنَّما نعني أنَّ الحيوان مُهيَّأ بالطبيعة لمجابَهة الظروف. كما أنَّ بذور النبات مُهيَّئة بالطبيعة للاستفادة من التربة والمناخ وما إليهما مِمَّا تَهيَّأت له خلال تطوُّرها.
وعندما بلغ الحيوان حدًّا معيَّنًا من التطوُّر حدث انحراف فريد في نوعه، لا يَقِل في خطورته عمَّا حدث عند أول ظهور المادة، وأول ظهور الحياة، وأول ظهور الوجود الحيواني. وقع هذا الحادث الجديد خلال عملية التطوُّر حينما توقَّفت غرائز الحيوان عن توجيهه في حياته، وحينما فَقدَت الطبيعة صِفتَها التحكُّمية، وحينما لم يُصبح تصرُّف الحيوان خاضعًا تمام الخضوع لقوالب موروثة.
وحينما يتجاوز الحيوان قانون الطبيعة، وحينما يعدو دوره السلبي البحت باعتبارها مخلوقًا، وحينما يُصبح — من الوجهة البيولوجية — أشد من غيره من أنواع الحيوان عجزًا، حينما يَحدُث ذلك «يُولد الإنسان». وفى هذه المرحلة من مراحل التطوُّر يتحرَّر الحيوان من الطبيعة بانتصاب قامته، وينمو ذِهنُه نموًّا كبيرًا يفوق ما بلغه أرقى نوع من أنواع الحيوان. هكذا وُلِدَ الإنسان، وانقضت بعد مولده مئات الألوف من السنين، وما يهمنا في هذا الصدد أن نُنبِّه إليه هو أنَّ نوعًا جديدًا قد ظهر، نوعًا يتجاوز حدود الطبيعة، وأنَّ هذا النوع الجديد قد بات مُدْرِكًا لحياته ولذاته.
وإدراك الذات، والعقل والخيال، الذي يتميَّز به الإنسان، يجعله مُتنافرًا مع الطبيعة، ويُفْقِده «الانسجام» الذي يتَّصف به الوجود الحيواني. وقد جَعلَت هذه الظاهرات من الإنسان نوعًا فريدًا في العالم. إنَّه جزء من الطبيعة، خاضع لقوانينها الطبيعية، وعاجز عن تغييرها، بيد أنَّه — برغم ذلك — يخرج وحده عن النطاق الذي يشمل بقية الطبيعة. فهو مُنعزِل عن الطبيعة مع أنَّه جزء منها. وهو بغير وطن برغم ارتباطه بالمَوطن الذي تُشاركه فيه جميع الكائنات. قذفت به في هذا العالم صُدفة من الزمان والمكان، وأخرَجَته منه صُدفة كذلك. ولمَّا كان مُدْرِكًا لِذاتِه فهو يعرف عَجْزَه وحدود وجوده. إنَّه يُبصر نهايته التي سوف يئول إليها: وهي الموت، مِمَّا يزيده شعورًا بالعجز. وفي وجود الإنسان إذن ضرب من الثنائية. فهو من الطبيعة وليس منها، وهو عقل وجسم، وليس بوسعه قط أن يتحرَّر من هذا الشعور بالازدواج. ولا يستطيع أن يُخلِّص نفسه من عقله حتَّى إن أراد ذلك، ولا يستطيع أن يُخلِّص نفسه من جسمه ما دام حيًّا، والجسم يدفعه إلى إرادة الحياة.
العقل للإنسان نعمة ونقمة. إنَّه يرغمه دائمًا على ضرورة إيجاد حل لهذه الثنائية التي لا مَفر منها. والوجود الإنساني في هذا يختلف عن وجود الكائنات الحية الأخرى جميعًا. إنَّه في حالة من عدم الاتزان الدائم الذي لا مَناص منه. الإنسان لا يستطيع أن يحيا حياته بتكرار سلوك أفراد جنسه. إذ إنَّ له حياة خاصة. والإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يشعر «بالملل»، والذي يُمكن أن يشعر بإبعاده عن حياة الفردوس. الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يرى وجوده — من حيث هو جزء من الطبيعة مُنفصِل عنها غير مُتَّصِل بها — مشكلة عليه أن يحلها، ولا يستطيع منها فِرارًا، إنَّه لا يستطيع العودة إلى حالة الانسجام مع الطبيعة التي سبقت ظهور الإنسان. وواجب عليه أن يُواصل تنمية عقله حتَّى يُمسِي سيد الطبيعة، وسید نفسه.
إنَّ مولد الإنسان من جميع وجوهه حادث سلبي، يَعُوزه التكيُّف الغريزي للطبيعة، وتَعُوزه القوة البدنية. وهو أشد الحيوانات عجزًا عند مولده، وبحاجة إلى الحماية لوقت أطول مِمَّا تحتاجه جميع أنواع الحيوان. فَقَدَ وِحْدَته مع الطبيعة ولم يُزوَّد بما يُمكِّنه من وجود جديد خارج الطبيعة. ولا يزال عقلُه في حالة أوليه مبدئية. ليست لديه معرفة بعمليات الطبيعة الكبرى، ولا يملك الأدوات التي يستبدلها بالغرائز المفقودة. وهو يعيش مُقسَّمًا في جماعات صغيرة، دون علم بنفسه أو بغيره. والواقع أنَّ قصة طرد آدم من الجنة كما وردت في الكُتب المقدسة تُعبِّر في وضوح وفي جلاء عن موقف الإنسان هذا من الوجود. فقد كان آدم يعيش في الجنة جزءًا من الطبيعة، وكان معها في انسجامٍ تامٍّ، ولكن دون وعي بنفسه. ويبدأ تاريخ الإنسان بعصيانه أمرًا من الأوامر وهو أول عمل تحرُّري يقوم به؛ وعندئذٍ أمسى مُدْرِكًا لنفسه، ولانفصاله عن الطبيعة، ولعجزه في حياته الجديدة. حينئذ يُطرَد آدم من الجنة، وتُحرم عليه العودة إليها.
إنَّ تطوُّر الإنسان يقوم على أساس فُقدانه لوطنه الأصلي الأول، الطبيعة، وعجزه عن العودة إليه. أي إنَّ الإنسان لا يستطيع أن يرتدَّ إلى حالة الحيوان. وليس أمامه إلَّا طريق واحد يسلكه؛ أن يتم خروجه من موطنه الطبيعي، وأن يجد لنفسه وطنًا جديدًا، وطنًا من خَلْقه، وذلك بأن يجعل الدنيا عالمًا إنسانيًّا يختلف عن عالم الحيوان، وأن يُصبح في حياته إنسانًا كامل الإنسانية، خالصًا من كل أثر من آثار الحيوانية القديمة.
عندما يُولد الإنسان جنسًا، أو يولد فردًا، وأقصد بميلاد الجنس البشري خروجه عن الحالة الطبيعية الحيوانية، وبمولد الفرد استقلاله عن رعاية أمه وفِطامه عن الحاجة إليها، ولا أقصد به خروجه من رحم أمه، عندما يُولد الإنسان بهذا المعنى، يخرج من حالة مُحدَّدة مرسومة، تحكمها الغرائز، إلى حالة مائعة غير مُحدَّدة، عامة لا استقرار فيها ولا وثوق؛ لأنَّ الوثوق لا يكون إلَّا بالماضي — وهو حالة الحيوانية، أو بالمستقبل المحتوم — وهو حالة الموت. وليس الموت في الواقع إلَّا عَودًا إلى الماضي السَّحيق، إلى الحالة المادِّيَّة المحض التي لا يحكمها عقل أو تفكير.
فمشكلة الوجود الإنساني إذن فريدة في الطبيعة كلها. انحرف الإنسان عن الطبيعة، ولا يزال فيها. وهو روحاني من ناحية، وحيواني من ناحية أخرى. غير محدود من جهة، ومحدود من جهة أخرى، ففي وجود الإنسان تناقضٌ ظاهر، ولا بُدَّ له من إيجاد حل يواجه به هذا التناقض، ولا بُدَّ له من إيجاد طريقة جديدة غير الطريقة الحيوانية للاتحاد مع الطبيعة، ومع بني جنسه، ومع نفسه. وهذه الضرورة المُلِحة في إيجاد حل يُواجه به الإنسان مشكلة وجوده هي مصدر كل القوى النفسية التي تُحرِّك الإنسان، ومصدر ميوله واتجاهاته، وتصرفاته وقلقه واضطرابه.
وبين الحيوان والإنسان فارِقٌ ظاهر من حيث الرَّغبات التي لا مناص من إشباعها. هناك حاجات فسيولوجية للحيوان والإنسان على السواء، هي الجوع والعطش والاتصال الجنسي. والحيوان يقنع إذا أشبع هذه الحاجات الفسيولوجية. وكذلك يقنع الجانب الحيواني من الإنسان إذا أُشْبِعَت هذه الرغبات. غير أنَّ إشباع هذه الحاجات الغريزية لا يكفي لسعادة الإنسان، بل لا يكفي لأن يكفل له سلامة العقل؛ ذلك لأنَّ الإنسان له خلاف الجانب الحيواني جانب آخر إنساني لا بُدَّ من إشباع رغباته أيضًا. وهو بهذا يتميَّز عن الحيوان في تكوينه. ولكي نفهم النفس البشرية لا مندوحةَ لنا عن تحليل حاجات الإنسان التي يقتضيها وجوده البشري.
فالمشكلة إذن التي ينبغي للجنس البشري، كما ينبغي للفرد، أن يحلها، هي مولده وانفصاله، مولد الجنس من العالم الحيواني وانفصاله عنه، ومولد الفرد من أمه وانفصاله عنها. إنَّ ميلاد الفرد من أمه مولدًا جُسمانيًّا ليس أمرًا حاسمًا قاطعًا واضحًا مُحدَّدًا. يفصله عن أمه كما يبدو لنا. فالطفل بعد الميلاد لا يختلف في كثير من الوجوه عنه قبل الميلاد، فهو لا يرى ولا يُدرك ولا يستطيع أن يُطْعم نفسه، فهو يعتمد على أمه كل الاعتماد، ولولاها لهلَك. فعملية الميلاد في الواقع لا تنتهي بانفصال الطفل عن أمه فصلًا جسمانيًّا، إنَّما هي عملية مستمرة. يبدأ الطفل في التعرُّف إلى الأشياء الخارجية، وفي الاستجابة للمؤثرات التي تقع عليه استجابةً فعليةً، وفي القبض على الأشياء، والتوفيق بين حركاته، ثمَّ يتعلَّم المشي. ولا ينتهي بذلك ميلاده؛ لأنَّ الميلاد — كما قلت — عملية مستمرة؛ فهو يتعلَّم بعد ذلك الكلام؛ ثمَّ يتعلَّم فوائد الأشياء ووظائفها، ويتعلَّم الاتصال بغيره، وأن يتفادى العقاب، وأن يكتسب المحبة والثناء. ومع نموه يتعلَّم الحب شيئًا فشيئًا، ويتعلَّم تدعيم العقل، والنظر إلى العالم نظرة موضوعية. ثمَّ يبدأ في تعزيز قواه، واكتساب الإحساس بذاتيته، كما يتعلَّم التغلُّب على إغراء الحواس من أجل نزاهة الحياة. فالميلاد إذن بمعناه الشائع المعروف ليس إلَّا بداية الميلاد بمعنى أوسع. وحياة الفرد كلها ليست سوى عملية التوليد للفرد. والواقع أنَّ الميلاد لا يتم إلَّا مع الموت، بل إنَّ أكثر الأفراد — لسوء الحظ — يموتون قبل أن يتم ميلادهم. وهذه العملية المستمرة في حياة الفرد من بدء خروجه من رحم أمه إلى النور حتَّى موته وفنائه، عملية الميلاد المُتجدِّد المُستمر، تُميِّز الإنسان عن الحيوان، وتخلق له حاجات لا يعرفها الحيوان ولا بُدَّ من إشباعها.
ويدلنا علمنا بتطوُّر الجنس البشري على أنَّ ميلاد الإنسان جنسًا يُشبه ميلاده فردًا. بعدما خرج الإنسان من المرحلة التي كان يتكيَّف فيها تكيُّفًا غريزيًّا بسيطًا، انتهت حياته من حيث هو حيوان، وبدأ وجوده من حيث هو إنسان، ولم يكن لديه الاستعداد الذي يواجه به هذا الوجود المُسْتَحدث، وكان موقفه كموقف الطفل عند مولده من حيث عجزه وضعفه. وتُعدُّ مرحلة الإنسان البدائي الأول فترة الطفولة البشرية، وليس تاريخ الإنسان كله بعد ذلك سوى عملية الميلاد المستمرة. وقد استغرق الإنسان مئات الألوف من السنين ليخطو الخطوات الأولى في حياته البشرية. ومرَّ الإنسان بمرحلة كان كل تفكيره فيها يدور حول نفسه، وكان يعتقد في قوة السحر؛ ثمَّ مرَّ بدور الطوطمة أو الاعتقاد بأنَّ بعض الكائنات الطبيعية — والحيوان خاصة — ترمز للفرد أو للقبيلة، وأنَّ بينها وبينه نوعًا من العلاقة، ثمَّ عَبَدَ الإنسان الطبيعة بعد ذلك، ثمَّ تولَّد لديه الضمير، ثمَّ تعلَّم النظرة الموضوعية، والمحبة الأخوية. ولم يُدْرِك الإنسان المثَل الأعلى لكمال مولده وتمام يقظته إلَّا منذ أربعة آلاف عام. وقد عبَّر عن هذه الصورة المثالية الكاملة للإنسان الفلاسفةُ والحكماء في مختلف أقطار العالم في صيغ متشابهة.
وإذا أدركنا أنَّ مولد الإنسان عملية سلبية أولًا، وأنَّها تنحصر في انفصاله عن وحدته الأصلية مع الطبيعة، وأنَّه لا يستطيع العودة إلى مصدره الأول، إذا أدركنا ذلك عَلِمْنَا أنَّ عملية الميلاد ليست عملية سهلة ميسورة بأيَّة حال من الأحوال. وكل خطوة يخطوها في وجوده الإنساني الجديد مفزعة مرعبة، معناها دائمًا التخلِّي عن حالة آمنة، معروفة نسبيًّا، إلى حالة جديدة لم يستطع بعد أن يتحكَّم فيها. ويتنازع الفرد في كل مرحلة من مراحل تطوُّره اتجاهان متنازعان؛ أولهما: الخروج من الرحم، من صورة الوجود الحيواني إلى صورة الوجود الإنساني، من العبودية إلى الحرية. وثانيهما: العودة إلى الرحم، إلى الطبيعة، إلى حالة الثبات والأمن. ويدل تاريخ الفرد وتاريخ الجنس البشري على أنَّ الاتجاه التقدُّمي أقوى دائمًا، ومع ذلك فظاهرة المرض العقلي وتقهقر الجنس البشري إلى مواقف نبذها منذ أجيال عديدة، يدل على النضال المرير الذي يُصاحب كل عملية جديدة من عمليات الميلاد. ولعل ذلك هو مغزى ما يُسمِّيه فرويد غريزة الحياة وغريزة الموت أو غريزة الميلاد الجديد وغريزة العودة إلى القديم.
هذان التياران في حياة الإنسان هما عندي الرغبة في التطوُّر والتقدُّم، والرغبة في التقهقر والنكوص؛ أو الانفصال عن الطبيعة، وحب العودة إليها. ويرى فرويد أنَّ غريزتَي الموت والحياة في قوة واحدة. غير أنِّي أُخالفه في ذلك، وأرى أنَّ تيار التقدُّم أقوى وأشد دفعًا من تيار التقهقر والرجوع إلى الوراء.
ومَهما يكن من أمر فإنَّ حياة الإنسان تخضع لعوامل التقدُّم وعوامل التأخُّر، أو عوامل تحقيق وجوده الإنساني، والعوامل التي تدفعه إلى العودة إلى الوجود الحيواني، وليس له من هذا الموقف مفرٌّ. وكل محاولة للعودة أليمة. وهي تؤدِّي حتمًا إلى المتاعب النفسية والمرض العقلي. وكل خطوة إلى الإمام مُفزعة أليمة كذلك، مصحوبة بالخوف والشك الذي لا يتغلَّب عليه الإنسان إلَّا بالمجاهدة. وكل شهوة إنسانية أساسية تخضع لهذه العوامل المُتعارِضة، إلَّا إذا استثنينا الشهوات البدنية الحيوانية، وأقصد بها الجوع والعطش والرغبة الجنسية. فالموقف بالنسبة للإنسان إذن مُعقَّد شائك، وعليه أن يخلص منه لنفسه بحلٍّ من الحلول. والمفهوم أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يقف من الطبيعة موقفًا سلبيًّا تكيفه كيفما شاءت، وهو جامد لا يُقرِّر لنفسه قرارًا. ولا يُمكن أن تحل المشكلة بمجرد إشباع الحاجات الغريزية إشباعًا كاملًا؛ ذلك لأنَّ أقوى ميول الإنسان كإنسان وأشد حاجاته إلحاحًا على نفسه لا تتصل بحاجاته البدنية، وإنَّما تمتد إلى كيانه الإنساني، ومشكلة وجوده.
ما هي القوة الدافعة الدفينة في الإنسان التي تُوجِّه ميول الإنسان ورغباته. كان فرويد يعتقد أنَّها «الطاقة الجنسية» وإنِّي أُخالفه في ذلك؛ إذ إنَّ الدافع الجنسي وما يتفرَّع عنه مَهما بلغت شِدَّته وقُوَّته ليس أقوى ما عند الإنسان من دوافع. ولا يرجع الاضطراب العقلي إلى إحباط هذا الدافع الجنسي. إنَّ أقوى الدوافع التي تُوجِّه سلوك الإنسان تنبثق من ظروف وجوده، أو من «موقفه الإنساني» من الوجود. من هذا الموقف الوسط الذي يتصل بالطبيعة من ناحية وينفصل عنها من ناحية أخرى، من خروج الإنسان من طور الحيوانية إلى طور الإنسانية مع حنينه إلى حياة الحيوان.
ولا يستطيع الإنسان أن يستقر في عيشه؛ لأنَّ ما تنطوي عليه نفسه من متناقضات يدفعه إلى البحث عن حالة مُتَّزنة، إلى انسجام جديد يحل محل الانسجام الحيواني مع الطبيعة، فالإنسان بعدما يُشْبِع حاجاته الحيوانية ينطلق نحو إشباع حاجاته الإنسانية. وإذا كان جسمه يدله على ما يأكل، وما لا يأكل؛ فإنَّ ضميره يجب أن يدُلَّه على أي الحاجات ينميها ويشبعها، وأيُّها يتركها حتَّى تَذْوَى وتموت. بَيْد أنَّ الجوع وشهوة الأكل من وظائف الجسم التي يُولد بها المرء، في حين أنَّ الضمير — وإنْ يكن موجودًا بالقوة — يحتاج إلى توجيه وإلى مبادئ لا تتطوَّر إلَّا مع نمو الثقافة.
إنَّ كل اتجاهات الإنسان وكل مجهوداته إنْ هي إلَّا مُحاولات لكي يجد لمشكلة وجوده التي بسطناها حلًّا، هي مُحاولات لكي يتجنَّب فُقْدان العقل والإصابة بالجنون (ونذكر هنا عَرَضًا أنَّ المشكلة الحقيقية للحياة العقلية ليست في إصابة بعض الناس بالجنون، وإنَّما هي العجب من أنَّ أكثر الناس لا يُصيبهم الجنون). إنَّ الرجل الصحيح العقل، والرجل المُختَل العقل، كِلاهما مدفوع بالحاجة إلى إيجاد حلٍّ لمشكلة وجوده. والفارق بينهما هو أنَّ أحدهما يجد حلًّا يسد أكبر قدر ممكن من مجموع حاجات الإنسان، ومن ثمَّ كان هذا الحل مُؤدِّيًا للكشف عن قوى الإنسان، وبالتالي يؤدي إلى سعادته. وكل ثقافة من الثقافات تمد الناس بنظام مُعيَّن تسوده حلول مُعيَّنة، يترتَّب عليها اتجاه مُعيَّن، وإشباع رغبات مُعيَّنة. فكل الديانات، البدائية منها والمُتقدِّمة، ليست سوى مُحاوَلات لإيجاد حل لمشكلة الوجود الإنساني. وتستوي في ذلك أرقى الثقافات وأَحطُّها، ولا تختلف إلَّا في درجة المفاضلة بين الحلول المختلفة. وسواء تكيَّفت حياة الفرد طبقًا لثقافة بعينها، أو انحرف في سلوكه عمَّا تقتضيه هذه الثقافة. فهو في كلتا الحالين يبحث عن الحلِّ. وكل الثقافات — بهذا المعنى — ثقافات دينية. وكل حالة شاذة ديانة من الديانات، أو عقيدة من العقائد، إذا كنَّا نقصد بالدين أو بالعقيدة إيجاد حل لمشكلة الوجود الإنساني. والواقع أنَّ الطاقة الكامنة في النفس، التي تُؤدِّي إلى إبداع الفن، أو إلى التديُّن، أو تؤدي إلى المرض العقلي، هذه الطاقة الكبرى لا يُمكن أن تكون نتيجة — كما يزعم فرويد — لحاجات فسيولوجية سَمَا بها صاحبها أو لم يُحقِّقها فكبَتَها في نفسه. وإنما هذه الطاقة ليست سوى مُحاوَلات لحل مشكلة مَولِد الإنسان كإنسان. ومن ثمَّ فإنِّي أعتقد أنَّ كل امرئ مثالي، ولا يستطيع إلَّا أن يكون مثاليًّا، إذا قَصَدنا بالمثالية المُجاهَدة في إشباع حاجات إنسانية يختص بها الإنسان وحده ويتجاوز بها حاجاته الفسيولوجية. والفارِق بين مِثالية ومثالية أنَّ الأُولى بنَّاءة تُقدِّم لصاحبها حلًّا وافيًا، والأخرى هدَّامة تدفعه إلى التحطيم. والفصل بين المثالية البنَّاءة والمثالية الهدَّامة يقوم على أساس معرفتنا بطبيعة الإنسان والقوانين التي تتحكَّم في نموه، وحاجاته الإنسانية غير الحيوانية، التي انبثقت من وجوده الإنساني.
فما هي هذه الحاجات الإنسانية؟
(أ) الحاجة إلى الاتصال
ينفصل الإنسان من وحدته الأولية مع الطبيعة، تلك الوحدة التي يتميَّز بها الوجود الحيواني. ولمَّا كان لديه عقل وخيال فهو يُدرك عزلته وانفصاله، كما يُدرك عجزه وجهله في موقفه الجديد، والمصادَفة في مولده وفي مماته، وهو لا يستطيع أن يُجابه هذه الحالة من الوجود لحظة واحدة إذا لم يجد لنفسه روابط جديدة مع أبناء جنسه تحل محل الروابط القديمة التي تحكمها الغرائز. وهو حتَّى إن أشبع جميع حاجاته الفسيولوجية يحس كأنَّ عزلته وتفرُّده سجن، عليه أن يفر منه لكي يحتفظ بصحته العقلية، والواقع أنَّ الرجل المختل في عقله هو ذلك الذي يفشل فشلًا ذريعًا في إنشاء أي نوع من أنواع الاتحاد، فيبقى سجين انفراده، ولو لم يقف خلف قضبان من الحديد. إنَّ ضرورة الاتحاد مع الكائنات الحية الأخرى، والاتصال بهم حاجة ماسَّة تتوقَّف عليها صحة الإنسان العقلية. وهذه الحاجة تكمن في كل ظاهرة من ظواهر العلاقات الإنسانية الودية، وفى كل لون من ألوان عواطف المحبة بأوسع معانيها.
وهناك عدة وسائل تُمكِّن الفرد من تحقيق هذا الاتحاد. فذلك يكون إمَّا بالخضوع لشخص معين، أو لجماعة، أو نظام، أو إِلَه. وبذلك يتجاوز المرء عزلة وجوده الفردي بانتمائه إلى شخص أو إلى شيء أكبر من نفسه. وهو يُدرك ذاتيته مقرونة بالقوة التي خضع لها. ومن الممكن كذلك أن يتجاوز المرء عُزْلته بوسيلة أخرى، تُناقِض هذه الوسيلة فهو يستطيع أن يتصل بالعالم «بتسلُّطه» عليه، وذلك بأن يجعل غيره جزءًا منه، ومن ثَمَّ يتجاوز وجوده الفردي بالسيادة. وفى الخضوع والسيادة عنصر مُشترَك هو طبيعة الاتصال عند الإنسان. والسيد والمَسود كلاهما يفقد وحدانيته وحريته، ويعيش كلٌّ منهما كَلًّا على الآخر، لكي يُشبع رغبته في الاتصال بغيره. وهو في هذا النوع من الاتصال، سيدًا أو مسودًا، يفقد قواه الباطنية وقدرته على الاكتفاء بنفسه والاعتماد عليها، وهو ما يتطلَّب الحرية والاستقلال. كما أنَّه في اتصال السيادة والخضوع يكون مُهدَّدًا دائمًا بالعداوة التي تنشأ عن هذه العلاقة بغيره. الخضوع لشخص آخر نوع من أنواع «الماسوكية»، أو الرغبة في تعذيب النفس، كما أنَّ التسلُّط على شخص آخر نوع من أنواع «السادِيَّة» أو الرغبة في تعذيب الآخرين، وذلك لا يمكن أن يبعث في النفس الرضا والطمأنينة. ولمَّا كان الخضوع أو السيادة (ومن السيادة حب التملُّك وحب الشهرة) لا يكفي لتكوين الإحساس بالذاتية، والاتحاد السليم. كان السيد والمسود في حالة من حالات النَّهم والجشع للمزيد من السيادة أو من الخضوع، لا تشبع أو تقنع. والنتيجة النهائية لهذا الميل أو ذاك هي الهزيمة. ولمَّا كانت هذه الميول تهدف إلى إيجاد إحساس بالاتحاد، فإنَّها تقضي على الإحساس بالاستقلال الذاتي؛ لأنَّ الفراء الذي يندفع بميل من هذه الميول يُمسي في حياته مُعتمدًا على غيره، وبدلًا من أن يُنمِّي وجوده الفردي، تراه يعتمد على أولئك الذين يُخضعهم أو الذين يسودهم.
هناك اتجاه واحد يستطيع المرء أن يشبع به حاجته إلى اتحاده مع العالم، كما يشبع به في الوقت ذاته حاجته إلى الإحساس باستقلاله الذاتي وبفرديته، وذلك هو الحب. الحب اتحاد مع شخص آخر أو شيء آخر، خارج الفرد، مع احتفاظه بانفصاله واستقلال ذاتيته. هو شعور بالمُقاسَمة والاشتراك، يسمح بإفساح المجال الواسع لِمَا عند الإنسان من نشاط داخلي. وفي الحب لا تبقى ضرورة للإيهام، فلا تعود هناك حاجة إلى أن تُضخِّم تقديرك لنفسك أو تقديرك لغيرك؛ لأنَّ المُشارَكة الإيجابية والمحبة تسمح لك بتجاوز وجودك الفردي، كما تسمح لك في الوقت نفسه بأن تحس بأنَّك تملك القوى الإيجابية التي تُمكِّنك من المحبة. ولا يهم في الحب أن يكون هناك فرد مُعيَّن تهبه قلبك، وإنَّما المهم أن يكون في قلبك إحساس بالحب، وقد يكون هذا الإحساس شعورًا بالتماسك الإنساني مع أبناء الجنس البشري كافة، وقد يكون في العشق بين الرجل والمرأة، أو في حب الأم لطفلها، بل قد يكون في حب الفرد لنفسه من حيث هو كائن بشري. الشعور الذي أعنيه شعور تصَوُّفي بالاتحاد. في هذا النوع من الحب يُصبح الفرد واحدًا مع «الكل»، وهو برغم ذلك مُستقل بذاته. كائن بشري فانٍ، متفرِّد، منعزل، محدود.
الحب وجه من وجوه ما أسْمَيته في هذا الكتاب باتجاه الإنسان وِجْهَة منتجة، وأقصد به اتصال الفرد ببني الإنسان، وبالطبيعة، وبنفسه، اتصالًا إيجابيًّا إنشائيًّا. فإن كان اتجاه الإنسان وِجْهَة منتجة في ميدان «الفكر» معناه إدراك العقل للعالم إدراكًا سليمًا. وإن كان في ميدان «الحركة» معناه العمل المنتج، وخير هذا العمل ما كان فنًّا أو حرفة؛ فهو في مجال «الشعور» معناه الحب. وهو الإحساس بالاتحاد مع شخص آخر، ومع الناس أجمعين، ومع الطبيعة. مع بقاء إحساس الفرد بوحدانيته وباستقلاله. فالحب يجمع بين شخصين في شخص واحد، مع بقائهما في الوقت ذاته شخصين منفصلين. إذا أحببت شخصًا أحببت فيه الإنسانية كلها، بل أحببت فيه نفسك. وفي الإحساس بالحب نجد الحل الوحيد لمشكلة الإنسانية، ونجد الصحة العقلية.
الحب المنتج يُكلِّف المحب بالعناية بمن يُحب، وبالمسئولية إزاءه، وباحترامه له، ومعرفته إياه؛ فإن أنا أحببت فردًا عَنَيتُ به واهتممتُ اهتمامًا إيجابيًّا بنموه وسعادته، فلا أقف أمامه موقف المُتفرِّج، وإنَّما أحمل تبعته، وأستجيب لحاجاته. كما أنِّي أحترمه وأُقدِّره، أي أنظر إليه كما هو، نظرة موضوعية، لا تشوهها رغباتي ومخاوفي. وأنا — بعد هذا كله — لا بُدَّ أن أَفهمه وأن أَعْرِفه، فأنفذ إلى دخيلته، ويتصل صمیمي بصدره.
والحب المنتج قد يكون «أخويًّا» بين النِّد والنِّد على أساس المساواة. وقد يكون «أمويًّا» تقوم العلاقة فيه على أساس من عدم المساواة. فالطفل عاجِز، ومُعتمِد على الأم، وكلما نَما استقل حتَّى يستغني عنها نهائيًّا. ومن ثمَّ كانت العلاقة بين الأم وطفلها علاقة عجيبة، بل مأساة من المآسي. الأم تبذل من ناحيتها كل ما يملك قلبها من حب لطفلها. غير أنَّ هذا الحب عينه يجب أن يكون عونًا للطفل على الانفصال عن أمه والاستقلال عنها استقلالًا تامًّا. ولا يشق على الأم نفسيًّا أن تُحب طفلها قبل انفصاله عنها. ولكنَّها تُعاني كثيرًا في حبها له مع اتجاهه نحو الانفصال عنها.
أمَّا الحب الجنسي فيتأثَّر بعامل آخر، عامل الانصهار والاتحاد مع شخصٍ آخر. فإذا كان الحب الأخوي يتعلَّق بالناس جميعًا، والحب الأموي يتعلَّق بطفل وبكل من يحتاج منَّا إلى العون، فإنَّ الحب الجنسي يتعلَّق بشخص واحد، وهو عادةً من الجنس الآخر، يشتهي الانصهار معه والاتحاد به. ويبدأ الحب الجنسي بالانفصال وينتهي بالوحدة، على خلاف الحب الأموي الذي يبدأ بالوحدة وينتهي بالانفصال. فإن تحقق الانصهار في الحب الأموي كان ذلك معناه القضاء على الطفل ككائن مستقل؛ لأنَّ الطفل يحتاج إلى الانفصال عن أُمِّه لا إلى الارتباط بها. وإذا كان الحب الجنسي لا ينطوي على الحب الأخوي ولا تدفعه إلَّا رغبة الانصهار، فهو رغبة جنسية تخلو من الحب بمعناه الصحيح، أو هو انحراف في الحب كما نلمسه في السادية والماسوكية.
وخلاصة القول إنَّ الفرد إذا فشِل في ارتباطه بالعالم أدَّى به ذلك إلى اختلال العقل، وإنَّ الصحة العقلية تتطلَّب نوعًا من أنواع الاتصال، وأرقى هذه الأنواع هو الحب، فهو الذي يحفظ للمرء حريته وذَاتِيَّته، مع اتحاده بشخص آخر أو بآخَرِين.
(ب) الحاجة إلى الإنشاء
ومن طبيعة الوجود الإنساني، التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بحاجة الإنسان إلى الاتصال، أنَّه «مخلوق» بيد أنَّه يحس الحاجة إلى تَجاوُز هذه الحالة السلبية، بأن يكون «خالقًا» أو مُبدِعًا، له دور إيجابي، يختلف عن الدور الذي يلعبه الحيوان. يأتي الإنسان إلى هذه الدنيا دون علمه، أو موافقته، أو إرادته. وهو في هذا لا يختلف في شيء عن الحيوان والنبات. ولكنَّه مُزوَّد بالعقل والخيال، ومن ثمَّ فهو لا يقنع بالدور السلبي الذي يلعبه غيره من المخلوقات، وإنَّما يدفعه باعِث على تَجاوُز دور المخلوق، دور الوجود الاعتباطي السلبي، فيُحاول أن يكون «خالقًا» إلى جانب كونه مخلوقًا.
يستطيع الإنسان أن يُولِّد الأطفال، وهو في ذلك أداة للخلق، خلق الحياة. ولكنَّه ليس فريدًا في ذلك، فهي صفة تُشاركه فيها الكائنات الحية الأخرى. بيد أنَّ الإنسان يتميَّز عن هذه الكائنات بإدراكه أنَّه مخلوق وخالِق في آنٍ واحد. إنَّه — أو بالأحرى إنَّ المرأة — تُوجِد على الأرض حياة جديدة، بولادتها الأطفال، وعنايتها بهم حتَّى يَنمُوا نموًّا يُمكِّنهم من أن يُعنوا بحاجات أنفسهم. والإنسان — رجلًا كان أو امرأة — يستطيع الخلق، بزرع البذور، وبإنتاج الأشياء المادية، وبإبداع الفن، وتوليد الآراء الجديدة، وتَبادُل المحبة. وفي عملية الخلق هذه يتجاوز الإنسان دور المخلوق، ويرتفع عن مستوى السلبية والمصادَفة في وجوده إلى مستوى الاستهداف والتحرُّر. وفي حاجة الإنسان إلى التجاوز توجد بذرة المحبة، والفن، والإنتاج المادي.
والخَلْق أو الإنشاء يقتضي بذل النشاط وتوفُّر العناية، ويقتضي الخالِق أن يُحِبَّ ما يخلقه. ولا يستطيع المرء أن يحل مشكلة التجاوز إذا لم يكن قادرًا على الخلق، وإذا لم يستطع أن يحب. وهناك حل آخر لهذه الحاجة إلى التجاوز؛ ذلك أنَّ المرء إذا كان لا يستطيع الإنشاء، فهو يستطيع التحطيم، وإذا لم يستطع البناء، استطاع الهدم والتدمير. وبالهدم والتدمير يتجاوز المرء كذلك حدود الحياة. فهو بتحطيم الحياة يضع نفسه فوق الحياة، ويتجاوز نفسه كمخلوق. وإذن فلا مناصَ للمرء من أن يُنْشِئ أو يُدمِّر، وأن يحب أو أن يكره. وهذه الإرادة الكبرى للتدمير عند الإنسان التي نلمسها في تاريخه، والتي نشهدها في الوقت الحاضر، هي من صميم طبيعة الإنسان، كما أنَّ إرادة الخلق والإنشاء من صميمها كذلك. فالخلق والتدمير، والحب والكراهية، لَيسَا غريزتين تَستقل كل منهما عن الأخرى؛ إذ إنَّ كليهما حَلٌّ لحاجة الإنسان إلى التجاوز؛ ولا مناص من ظهور إرادة التدمير إذا لم تُغْن إرادة الخلق. بيد أنَّ إشباع حاجة الخلق تُؤدِّي إلى السعادة، في حين أنَّ الهدم يُؤدِّي إلى الألم، للهادم نفسه قبل غيره.
(ج) الارتباط الأموي
إنَّ مولد الإنسان كإنسان معناه خروجه من موطنه الطبيعي، أو بداية انفصاله عن روابطه الطبيعية. غير أنَّ هذا الانفصال يفزع الإنسان غاية الفزع؛ لأنَّه بانفصاله تنقطع صلته بجذوره الطبيعية الأولى، لا يعرف أين هو من الوجود، ولا من يكون. إنَّه يقف وحيدًا وكأنَّه بغير موطن، مُعلَّقًا كأنَّه بغير جذور، وهو لا يستطيع أن يحتمل هذه العزلة وهذا العجز في موقفه الجديد، فيختل عقله ويفقد توازنه. وبِوسْعِه أن يستغني عن الجذور الطبيعية الأولى التي سبقت إنسانيته إذا وَجد جذورًا إنسانية جديدة. ولا يمكن أن يشعر بالطمأنينة إلَّا بعد أن يعثر على هذه الجذور الجديدة، فهل من العجب بعد ذلك أن تكون عند الإنسان رغبة قوية في الإبقاء على روابطه الطبيعية الأولى، وأن يُقاوم عملية انفصاله عن الطبيعة، وعن أمه، وعن أواصر الدم وروابط الأرض؟
وأُولَى الروابط الطبيعية رابطة الطفل بأمه، إنَّه يبدأ الحياة في رحمها، وفي رحم أمه يلبث فترة أطول مِمَّا يلبث أكثر الحيوان، وحتَّى بعد الميلاد يبقى الطفل عاجزًا جثمانيًّا، ومعتمدًا على أمه كل الاعتماد، وتمتد فترة العجز والاعتماد هذه مدى أطول مِمَّا تمتد مع أي نوع من أنواع الحيوان. وفي السنوات الأولى من حياة الطفل لا يتم بينه وبين أمه انفصال تام، فإشباع حاجاته الفسيولوجية، وحاجته الحيوية إلى الدفء والمَحبة، يتوقَّف عليها. فالأم لا تلد الطفل وتكتفي بذلك، وتتخلَّى عنه، بل تَستمر في إمداده بالحياة. وعنايتها به لا تتوقَّف على أي عمل يُؤدِّيه الطفل لها، أو على أي واجب على الطفل أن يفي به. إنَّما هي عناية خالصة لوجه الله. إنَّها تعني به لأنَّ هذا المخلوق الجديد هو طفلها. والطفل في السنوات الأولى الحاسمة من حياته يجد في خبرة أمه ينبوع الحياة، كما يجد لديها الحماية والغذاء. الأم له طعام، وحب، ودفء، وأرض صلبة يرتكز عليها. حبها له معناه الحياة، واتصال الجذور، والاستيطان، والإيناس.
وكما أنَّ الميلاد معناه التخلِّي عن حماية الرحم، فالنمو معناه الابتعاد عن مجال حماية الأم. وحتَّى حينما يبلغ الطفل سن الرشد لا يستغني تمامًا عن الحنين إلى هذا الوضع القديم، بالرغم عمَّا بين الطفل والراشد من فروق. فالراشد يستطيع الوقوف على قدميه، والعناية بنفسه، كما يستطيع أن يتحمَّل مسئولية نفسه، بل مسئولية غيره، على خلاف الطفل الذي يعجز عن كل هذا. بيد أنَّا لو وضعنا في اعتبارنا مشكلات الحياة، وقلة ما لدينا من علم ومعرفة، وما يرتكب الإنسان من أخطاء لا محيص له عنها، حكمنا أنَّ موقف الراشد لا يختلف كثيرًا عن موقف الطفل كما نحسب، فكل راشد لا يزال في حاجة إلى العون، وإلى الدفء، والحماية، على وجه يشبه إلى حدٍّ كبير حاجة الطفل إليها. فهل من عجب بعد هذا أن نجد عند الراشد حنينًا شديدًا إلى الأمن والاتصال اللذين كان يجدهما من قبل عند أمه؟ أليس من الضروري له ألَّا يتخلى عن هذا الحنين إلا بعد أن يجد لنفسه وسائل جديدة للاتصال؟
ومن هذا الصراع النفسي بين رغبة الراشد في العودة إلى حالة الطفولة الأولى، ورغبته في استقلال ذاته الذي يُمليه عليه رُشْدَه، من هذا الصراع كثيرًا ما يُصاب المرء بالأمراض النفسية، ولعل أهمها «الفصام» أو الشيزوفرانيا. وقد تظهر الرغبة في العودة إلى حالة الطفولة في الأحلام، فيرى الحالم نفسه في كهف مظلم، أو منفردًا في غواصة، أو غارقًا في أعماق اليمِّ، إلى غير ذلك من صور العزلة التي تشبه عزلة الجنين في رحم أمه، ومثل هذا الشخص يخشى الحياة، ويستعذب الموت (والموت حال شبيهة بالعودة إلى الرحم، أو إلى أمنا الأرض).
وأخف حالات الارتباط بالأم، تلك الحالة التي يسمح المرء فيها لنفسه بالميلاد، ولكنَّه يخشى أن يخطو الخطوة التالية بعد الميلاد، يخشى أن يُفْطَم عن الرضاعة من أمه. ومن الناس من يُجمَّد عند هذه المرحلة من مراحل الميلاد، فتشتد بهم الرغبة إلى رعاية كرعاية الأم، تراهم يبحثون عمَّن يقوم على خدمتهم الشخصية، وعلى تمريضهم، وعلى العناية بهم عناية أموية. هؤلاء يعيشون حياتهم معتمدين على غيرهم. يفزعون أشد الفزع ويفقدون الشعور بالطمأنينة إذا هم حُرِمُوا الرعاية الأموية. ولكنَّهم يتفاءلون وينشطون إذا وجدوا أمًّا — أو من يحل محلها — تهبهم محبتها، إما حقيقة أو وهمًا.
وفي هذه الظواهر المَرضية في حياة الأفراد ما يُشبهها في تطوُّر الجنس البشري. وأكبر دلالة على ذلك شيوع تحريم العلاقة الجنسية على أيَّة صورة من الصور مع بعض أفراد الأسرة شيوعًا عالميًّا. ففي ذلك إشارة إلى ضرورة قطع الحبل السري الذي يربط الفرد بأمه. وضرورة التغلُّب على الميل الشديد نحو الارتباط بالأم، والوجود المتصل بالطبيعة الذي ظهر قبل الوجود الفردي. ولمَّا كانت هذه الرغبة كامنة في الإنسان فقد قامت على أساسها نُظم اجتماعية تربط الفرد بها بدلًا من ارتباطه بالأم. ومن هذه النظم نظام الأسرة، والقبيلة، والدولة، والأمومة، والمذهب الديني.
ويُفسِّر فرويد هذه الظاهرة بما يُسمِّيه «مُركَّب أوديب» وهو ميل الابن الغريزي نحو أمه، ومنافسته لأبيه في التعلُّق بها. غير أنَّ فرويد يقصر تفسيره لهذا المُرَكَّب على الرغبة الجنسية، في حين أنَّه في الواقع أشمل من ذلك وأعم. إنَّما يدل هذا المركب على ما بين رغبة الفرد في العودة إلى الارتباط بالطبيعة وبين مُتطلَّبات الحياة الرشيدة من تعارض.
وقد سبق فرويد عالِم آخر هو جوهار جاكوب باخوفن أشار إلى أنَّ الارتباط بالأم وبالدم والأرض أمر تاريخي قديم نشأ في نظام اجتماعي كانت فيه الأم هي صاحبة المكانة الأولى في الأسرة وفي الحياة الاجتماعية والدين. وكان كثير من الأرباب آلهات. فالارتباط بالأم عنده إذن في الوقت الحاضر ليس مرضًا من الأمراض النفسية، إنَّما هو نظام يُعزِّز الحياة والحرية والمساواة التي كانت تسود بناء المجتمع الأموي. غير أنَّ جوهان لم يغفل كذلك الإشارة إلى أنَّ تفسيره للنظام الاجتماعي يدل على أنَّ ارتباط الإنسان بالطبيعة وبالأرض وبالدم يقف عقبة في سبيل نمو فرديته وعقله، فيبقى طفلًا عاجزًا عن التقدُّم والتطوُّر.
ويتطرَّق مُؤلِّف هذا الكتاب من البحث في علاقة الطفل بأمِّه إلى علاقته بأبيه، وما يترتَّب على ذلك من آثار في المجتمع. علاقة الأمومة عنده تقوم على المحبَّة، وعلاقة الأبوة تقوم على أساس الواجب. وحالة الاتزان لا تكون إلَّا إذا اتصل المرء بغيره من الناس على هذين الأساسين: المحبة والواجب الذي يُمليه الضمير.
وتقوم الديانة اليهودية على أساس الواجب وطاعة الله، في حين أنَّ الديانة المسيحية تقوم على أساس التسامح والمحبة. فاليهودية أقرب إلى المجتمع الأبوي، والمسيحية أقرب إلى المجتمع الأموي. ومن رأيي أنَّ الإسلام يُحقِّقُ حالة الاتزان التي يُشير إليها أريك فروم، فهو يجمع بين الواجب وطاعة الله من ناحية والمحبة من ناحية أخرى.
وقبل أن أُتابع بحثي في حاجات الإنسان الأساسية، أودُّ أن أُقدِّم للقارئ عرضًا سريعًا لأوْجه الارتباط المختلفة كما نلمسها في تاريخ البشر، ولو أنَّ هذا العرض يعترض سلسلة التفكير الأساسية في هذا الفصل.
كما أنَّ الطفل مرتبط بأمه، فالإنسان في طفولته التاريخية (التي تكوِّن الجانب الأكبر من تاريخه بحساب الزمن) يبقى مرتبطًا بالطبيعة، ويظل العالم الطبيعي موطنه حتَّى بعد خروجه من هذا العالم، فما تزال جذوره على اتصال به. فتراه يُحاول أن يلتمس الأمن والطمأنينة بعودته إلى الطبيعة واتحاده بها، بعالم النبات والحيوان، وتتبيَّن هذه الصلة بين الإنسان والطبيعة في عبادة الإنسان للأشجار والحيوان، فهي من مظاهر الطبيعة التي تحميه، وفي ارتباطه بها يشعر باتحاده وتعلُّقه بها، باعتباره جزءًا منها. وكذلك الحال فيما يتعلَّق «بالأرض»، فالقبيلة لا ترتبط بأواصر الدم فحسب، ولكنَّها ترتبط كذلك «بالأرض» المُشترَكة. وفي الجمع بين الدم والأرض قوة الوطن الواحد الذي يُوجِّه الفرد في حياته ويؤثِّر تأثيرًا قويًّا في تصرفاته.
وفي هذا الدور من أدوار التطوُّر يحس الإنسان أنَّه جزء من العالم الطبيعي، عالم النبات والحيوان، ولا يُحاول أن يقيم حدًّا فاصلًا بينه وبين عالم الحيوان إلَّا بعد أن يخطو خطوة حاسمة في سبيل خروجه عن الطبيعة خروجًا تامًّا. وقد كان ذلك أول الأمر باستخدامه النار وبعض الآلات البدائية، ثمَّ بالرعي والزراعة والفنون والصناعات، وتَبادُل المحصولات مع البلدان الأخرى، حينما أصبح مسافرًا وتاجرًا. وبذلك غيَّر من وجه الطبيعة، ولم يَعُد خاضعًا لها تمام الخضوع.
وتتنوع الآلهة تبعًا لذلك. فما دام الإنسان يشعر باتحاده مع الطبيعة فإنَّ آلهته تكون جزءًا من الطبيعة، وعندما يتقدَّم في مهاراته المهنية يصنع الأوثان من الأحجار والأخشاب، أو من الذهب، وبعدما يتقدَّم في سُلم التطوُّر ويزداد إحساسه بِقوَّته، تتخذ آلهته شكل الكائنات البشرية، وفي الدور الزراعي من التاريخ البشري يَكِل الإنسان إلى الآلهة رعايته وحمايته. وأخيرًا تُمثِّل الآلهة العقل والمبادئ والشرائع. ويكون ذلك في مرحلة انفصال الإنسان عن الطبيعة. وقد ظهرت هذه الديانة في مصر في عهد أخناتون في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وفي فلسطين عند ظهور الديانة اليهودية حول هذا التاريخ، وفي الهند واليونان بعد ذلك بوقت قصير.
وتقوم ثقافة الغرب على أساسين: الثقافة اليهودية والثقافة اليونانية، وتستند الأولى إلى النظام الأبوي الذي يتمثَّل في الأسرة التي يحكمها الأب، وفي رعاية القسيس أو الكاهن، والملك، والله في السماء. وفي هذه الديانة يخلق الله الإنسان على صورته، ومن ثمَّ تكون المساواة بين البشر. وقد انتقلت هذه الروح الأبوية من اليهودية إلى المسيحية، وكان فضل المسيحية على الثقافة الغربية سيادة الروح. وأمَّا الأساس الثاني الذي تقوم عليه الثقافة الغربية فهو ثقافة اليونان، وهي كذلك ثقافة أبوية، إلَّا أنَّها تُمجِّد العقل أكثر مِمَّا تُمجِّد الروح. فاليونان هم الذين وضعوا أُسس التفكير العلمي والفلسفي، وهم الذين وضعوا نظريات الدولة والمجتمع. فالثقافة الغربية التي انحدرت إلينا، هي إذن ثقافة تفصل المرء عن الطبيعة بفاصل الدين والعقل. ولمَّا كانت الرغبة إلى الاتصال بالطبيعة كامنة أصيلة في الإنسان، كان لا بُدَّ له من إيجاد نوع جديد من أنواع الاتصال.
وما تزال بالإنسان بقية من حنين إلى الارتباط بالأم والأرض والدم، تتمثَّل في التعصُّب القومي والعنصري والوطني. ومن أقوى مظاهر المزج بين عبادة الدولة وعبادة القبيلة في العصر الحديث الفاشية والنازية والاستالينية. ففي هذه المذاهب الثلاث لا بُدَّ من زعيم تتمثَّل فيه النزعة الأبوية ظاهرة في شخصه، والنزعة الأموية ظاهرة في دعوته إلى تقديس الوطن.
فالوطنية صورة من صور الحنين إلى الارتباط بالأم، والوطنية اتجاه عقلي يضع الأمة فوق الإنسانية، وفوق مبادئ الحق والعدل، ولا تقتصر على الاهتمام بالتقدُّم المادي والأدبي في البلد الذي ينتمي إليه المواطن، دون تسلُّطه على غيره من الأوطان. وكما أنَّ حب فرد واحد دون الأفراد الآخرين ليس حبًّا بمعناه الحق، فكذلك حب الوطن الذي لا يمتد إلى الإنسانية جمعاء ليس حبًّا بمعناه الصحيح، وإنَّما هو ضرب من عبادة الأوثان. وتستطيع أن تُدرك ما أزعم حينما تتصوَّر ما يُلاقيه رجل يمتهن علم بلاده دون الاعتداء على دين أو خلق، أو ما يلاقيه رجل يُصرِّح ببغضه لوطنه أو يُظْهِر عدم الاهتمام بانتصاره في حرب من الحروب. في حين أنَّ المواطن إذا نادى بقتل أعداء الوطن صفَّقت له الجماهير، بل إنَّ الاعتداء على حرمة الدين ذاته قد يكون أحيانًا أقل فُحشًا في نظر كثير من الناس من الاعتداء على حرمة الوطن. وقد يُبرِّر المواطنون حُكمهم القارص على مَن يعتدي على رمز الوطنية بأنَّ من يعتدي على بلده يدل على أنَّه لا يعرف التماسك البشري أو الشعور الاجتماعي. غير أنَّ هذا الحكم يصدق أيضًا على من يُنادي بالحرب ضد شعب آخر، أو بقتل الأبرياء من جنس آخر، أو باستغلال غيره في سبيل مصلحته الشخصية. وليس من شكٍّ في أنَّ عدم الاهتمام بالوطن دليل على انعدام المسئولية الاجتماعية والتماسك البشري. بيد أنَّ الاعتداء على غير المواطنين هو كذلك دليل على انعدام المسئولية الاجتماعية والتماسك البشري. ولا بُدَّ للإنسان من أن يُحرِّر عقله وحُبَّه بدرجة أعلى مِمَّا فعل حتَّى الآن، ولا بد له من أن يُنْشئ عالَمًا يقوم على التماسك البشري الشامل وعلى العدالة المُطلَقة، ولا بُدَّ له من أن يحس بارتباطه برباط الأخوة العالمية. لا بُدَّ له من ذلك لكي يخلق لنفسه صورة جديدة من صور الارتباط البشري، ولكي يُحوِّل دنياه إلى وطن إنساني حقًّا.
(د) التفرُّد
يُمكن تعريف الإنسان بأنَّه الحيوان الذي يستطيع أن يقول «أنا»، والذي يستطيع أن يكون مُدْرِكًا لنفسه كوحدة مستقلة. فالحيوان جزء من الطبيعة داخل فيها، لا يتجاوزها، وليس له وعي بنفسه، وليست به حاجة إلى الإحساس بذاتيته. أمَّا الإنسان، فلأنَّه ينفصل عن الطبيعة ولأنَّه يتمتَّع بالعقل والخيال، فهو بحاجة إلى تكوين فكرة عن نفسه، وبحاجة إلى أن يُحس بذاتيته. ولأنَّ الإنسان يُؤثِّر في الحياة كما يتأثر بها، ولأنَّه فقد وحدته الأولى مع الطبيعة، ولأنَّ عليه أن يُقرِّر القرارات وأن يختار، ولأنَّه يُحس اختلاف شخصه عن شخص جاره، مِن أَجْل هذا فلا مناصَ له من الإحساس بأنَّ نشاطه يدور حول نفسه. وهذه الحاجة إلى الإحساس بالذاتية كالحاجة إلى الاتصال وإلى الارتباط والإنشاء؛ حيوية للإنسان لازمة له، ولا يُمكن أن يكون سليم العقل إذا لم يجد لنفسه سبيلًا إلى سَدِّها. إنَّ إحساس المرء بذاتيته يتطوَّر عن خروجه من «الروابط الأولية» التي تربطه بأمه الطبيعة. والطفل الذي لا يزال يشعر بوحدته مع أمه لا يستطيع أن يقول «أنا»، وليست به حاجة إلى أن يقول ذلك. وهو لا يُدرك ذاته متميزة عن غيرها إلَّا بعد أن يُدرك أنَّ العالم الخارجي منفصل عنه ومختلف عنه. ومن الكلمات التي لا يستعملها الطفل إلَّا مُتأخرًا مُشيرًا إلى نفسه كلمة «أنا».
وفي تطوُّر الجنس البشري تتوقَّف درجة وعي الإنسان بنفسه وبانفصاله كنفس مستقلة على مدى خروجه من القبيلة ومدى تطوُّره في عملية التفرُّد. فالعضو في القبيلة البدائية لا يُفرِّق في إحساسه بذاتيته بين «أنا» و«نحن»، ولا يستطيع أن يتصوَّر نفسه فردًا له وجود مستقل عن المجموع. وفي عالَم العصور الوسطى كان الفرد يُدرك نفسه مرتبطًا بالدور الاجتماعي الذي يُؤدِّيه في نظام الجماعة الطبقي. فالسيد والمُزارِع لا يتصوَّر أنَّه يسود أو يزرع بحكم المُصادَفة، وإنَّما هو يفعل ذلك بحكم الطبيعة، فهو نظام ثابت لا يُمكن أن يتغيَّر. فلمَّا انهار نظام الإقطاع، تنبَّه الفرد إلى نفسه وتساءل «من أنا؟» وتلك هي المشكلة الفلسفية التي أثارها ديكارت، فحلَّ مشكلة الذاتية بقوله: «أنا أشكُّ — إذن فأنا أفكر، وإنما أفكر — فإذن أنا موجود». وهذا الحل يحصر مشكلة الذاتية في التفكير ولا يراها في محيط الشعور والعمل الإنشائي.
وقد اتجه تطوُّر الثقافة الغربية نحو خلق أساس للشعور بالفردية شعورًا كاملًا. وبتحرير الفرد سياسيًّا واقتصاديًّا، وبتربيته على أن يُفكِّر لنفسه، وبتحريره من تحكُّم السُّلطة الحاكمة فيه، يأمل الإنسان أن يشعر «بِإنِّيَّته». ولكن قلَّ مِنَ الناس مَن شعر بهذه الأنية، وبقيت الفردية عند أكثر الناس مجرد حجاب يختفي وراءه الفشل في اكتساب الإحساس الفردي بالذاتية.
وظلَّ الإنسان يبحث عن الإحساس الفردي الحق بالذاتية، ولمَّا لم يبلغه اخترع له نظمًا أخرى تحل محله، فأوجد الأُمَّة، والمذهب، والطبقة، والمهنة. وبعد أن اختفت الذاتية القبلية الأصلية، وقبل أن يكتسب المرء الإحساس الفردي الحق بالذاتية، خلق لنفسه تعابير تُشعره بذاتيته، كقوله مثلًا «أنا أمريكي» أو «أنا بروتستانتي» أو «أنا من رجال الأعمال». وهي الصفات التي تعرف الفرد بنفسه، وإن تكن قد أخذت أخيرًا في الزوال — وبخاصةً في أمريكا — ليحل محلها التجانس مع المجموع، والانخراط في سلك القطيع، وأداء ما يُؤدِّيه الآخرون.
فبالقدر الذي لا أُخالف به غيري، أو بالقدر الذي أتفق به معه، وبالقدر الذي يصفني به الناس بأنِّي «رجل عادي بغير شذوذ» — بهذا القدر أحس بأنِّي أكون أنا أو «بأنِّي ها أنا ذا كما يُريدني غيري أن أكون» كما ذكر بيراندلو في إحدى مسرحياته. هذا هو الإحساس الحديث بالذاتية: التجانس مع الآخرين وتبعية المجموع.
إنَّ مشكلة الإحساس بالذاتية ليست كما يزعم الباحثون في كثير من الأحيان مشكلة فلسفية فحسب، أو مشكلة لا تتعلَّق إلَّا بالعقل والفكر. إنَّما الحاجة إلى الإحساس بالذاتية تنبثق من ظروف الوجود البشري نفسها، وهي مصدر أقوى وأعمق ما يبذله الإنسان من كفاح في حياته. ولا يستطيع المرء أن يكون سليم العقل إلَّا إذا أحس بإنيته وذاتيته. ولمَّا كان الأمر كذلك فهو يندفع إلى القيام بأي عمل في سبيل اكتساب هذا الإحساس. وهذه الحاجة تَكمُن وراء ميله الشديد إلى التجانس، بل إنَّها لأشد أحيانًا من الحاجة إلى البقاء المادي. ومن الواضح الجلي أنَّ الناس يميلون إلى المخاطرة بحياتهم، والتخلِّي عن حبهم، والتنازل عن حريتهم، والتضحية بآرائهم، من أجل الاتحاد مع القطيع، ومن أجل التجانس مع الجمهور؛ أي من أجل اكتساب الإحساس بالذاتية، حتَّى إن كان إحساسًا وهميًّا باطلًا.
(ﻫ) التعقُّل
لمَّا كان للإنسان عقل وخيال كان لا بُدَّ له من الإحساس بذاتيته، كما أنَّه لا بد له من أن يُوجِّه نفسه في هذه الدنيا توجيهًا مفهومًا معقولًا. وتُشبه هذه العملية في تطوُّرها عملية النمو البدني خلال السنوات الأولى من حياة الطفل، التي تبلغ نهايتها عندما يستطيع الطفل أن يمشي وحده بغير مُعين، وأن يلمس الأشياء ويتناولها مُدركًا لها عارفًا بها. وبعدما يكتسب الطفل القدرة على المشي والكلام يكون قد خطا الخطوة الأولى فقط في نموه الإنساني. إنَّ الإنسان يجد نفسه منذ البداية مُحاطًا بظواهر كثيرة مُحيِّرة، ولمَّا كان يتميز بالعقل فلا مفرَّ له من أن يُفسِّر هذه الظواهر، وأن يضعها في إطار يفهمه ويسمح له بمعالجتها في فكره. وكُلَّما تقدَّم عقل الإنسان اقتربت فلسفته في تفسير الظواهر من الصحة ودنَت من الواقع. ولا بُدَّ للمرء — على أيَّة حال من الأحوال — من فلسفة عامة يُفسِّر بها ظواهر الكون والطبيعة، سواء كانت هذه الفلسفة صحيحة أو وهمًا. وهي أشبه بالإطار العام الذي يضع فيه المرء كل واقعة من الوقائع موضعًا مُعيَّنًا. وهذه الفلسفة العامة — أو هذا الإطار العام للحوادث والوقائع — حاجة من حاجات الإنسان الأساسية. فعقيدة المرء في الطوطم، أو في إله المطر، أو في امتياز العنصر الذي ينتمي إليه ومستقبله، كل ذلك يُشبع حاجته إلى إطار عام مُوجَّه. ومن الواضح أنَّ الصورة التي يرسمها المرء للعالم تزداد وضوحًا بازدياد معارفه وتقدُّم عقله وفكره. ولمَّا كانت القدرة الذهنية للجنس البشري — من الناحية البيولوجية — قد بقيت في مستوًى واحد آلاف الأجيال، فإنَّ الوصول إلى «الموضوعية» — أي اكتساب القدرة على رؤية العالم والطبيعة، والأشخاص الآخرين، بل وذات الشخص، على حقيقتها لا تشوبها الرغبات والمخاوف — يتطلَّب أمدًا طويلًا. وكُلَّما تقدَّمت «الموضوعية» في تفكير الإنسان كان أقرب إلى الواقع، وأشد نضوجًا، وأقدر على خلق عالم إنساني يطمئن إليه. إنَّ العقل هو قدرة الإنسان على «إدراك» العالم بالفكر، وهو في ذلك نقيض الذكاء، وهو قدرة المرء على «تناول» الدنيا بمعونة الفكر. العقل أداة الإنسان للوصول إلى الحق، والذكاء أداته لتناول الدنيا بدرجة أكثر نجاحًا. والأداة الأولى إنسانية بالضرورة، أمَّا الثانية فتتعلَّق بالجانب الحيواني من الإنسان.
العقل مقدرة يجب تدريبها لكي تتطوَّر، وهي لا تقبل التجزئة. أقصد أنَّ القدرة على الموضوعية تشتمل على معرفة الطبيعة، كما تشتمل على معرفة الإنسان، والمجتمع، والنفس، ولا ينبغي أن تقتصر على ناحية واحدة دون النواحي الأخرى. فالعقل قدرة إنسانية يجب أن تمتد إلى العالم كله الذي يعيش فيه الإنسان.
هذه الحاجة عند الإنسان لكي تكون لديه فلسفة عامة يُفسِّر بها الكون، أو إطار واحد يُوجِّه حياته توجيهًا عقليًّا، هذه الحاجة يسدها الإنسان بشتى الطرق. فهو قد يعتقد في الطوطم، أو في دين من الأديان، إلهي أو غير إلهي. أو في نظام فلسفي مُعيَّن كالرِّواقية. وكل ذلك يُؤدِّي إلى غرض واحد، وهو الوفاء بحاجة الإنسان إلى نظام فكري شامل، وإلى هدف يُكرِّس حياته له، يُكْسِب وجوده وموقفه من الدنيا معنًى ومغزًى.