الصحة العقلية والمجتمع
تتوقَّف الصحة العقلية للإنسان على رأينا في طبيعته. وقد حاولنا في الفصل السابق أن نُبيِّن أنَّ حاجات الإنسان وميوله تنبثق من ظروف وجوده الخاصة به، أعني من شعوره بالوحشة في هذه الدنيا التي انفصل فيها عن عالم الحيوان وعن الطبيعة وأخذ يبحث لنفسه فيها عن صلات جديدة. إنَّ الحاجات التي يشترك الإنسان فيها مع الحيوان — الجوع والعطش والحاجة إلى النوم وإشباع الغريزة الجنسية — حاجات أساسية هامة؛ لأنَّها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتكوين الجسم الطبيعي. وهي حاجات قد تنقلب إلى قوًى هائلة إذا لم يُشبعها صاحبها (ويصدق ذلك بطبيعة الحال على الحاجة إلى الطعام والنوم أكثر مِمَّا يصدق على الحاجة إلى إشباع الغريزة الجنسية، التي لا تبلغ قُوَّتها إذا لم تُشبع قوة الحاجات الأخرى، على الأقل من الناحية الفسيولوجية.)
غير أنَّ إشباع هذه الحاجات إشباعًا كاملًا لا يكفي لضمان سلامة العقل وصحته. فإنَّ ذلك يتوقَّف على إشباع تلك الحاجات والميول التي يختص بها الإنسان وحده، والتي تنبثق عن موقف الإنسان من الطبيعة، وأقصد بها حاجته إلى الاتصال، وإلى الخلق والإنشاء، والارتباط الأموي، وحاجته إلى الإحساس بذاتيته، وإلى إطار عام من التوجيه الفكري يُفسِّر به ما حوله من ظواهر ومظاهر، وإلى هدف يُكرِّس له حياته. إنَّ أقوى ميول الإنسان، وأقصد به شهوة السلطان، والاعتزاز بالنفس، ومعرفة الحقيقة، والميل إلى الحب والأخوة، وإلى الهدم والإنشاء، وإلى توجيه الأعمال نحو هدف مُعيَّن، كل ذلك يصدر عن طبيعة وجود الإنسان، ولا يعود إلى «الطاقة المكبوتة» التي أشار إليها فرويد.
إنَّ إيجاد حلٍّ لحاجات الإنسان الفسيولوجية أمر يسير، والصعوبة في ذلك اجتماعية واقتصادية فحسب. أمَّا إيجاد حل لحاجات الإنسان البشرية الخاصة به فأمر مُعقَّد غاية التعقيد؛ إذ يتوقَّف على عوامل عدة، كما يتوقَّف على طريقة تنظيم المجتمع الذي يعيش فيه وكيف يُحدِّد هذا التنظيم العلاقات الإنسانية في داخله.
إنَّ الحاجات السيكولوجية الأساسية التي تنبثق من خصائص الوجود الإنساني لا بُدَّ من إشباعها بطريقة ما، وإلَّا اختلَّ عقل الإنسان. كما أنَّ الحاجات الفسيولوجية لا بُدَّ من إشباعها وإلَّا انتهى صاحبها إلى الموت. غير أنَّ الطُّرق التي يمكن بها سد الحاجات السيكولوجية مُتعدِّدة، والفرق بين طريقة وأخرى يُضارع الفرق بين درجات الصحة العقلية المختلفة، وإذا لم تُوَفَّ حاجة من الحاجات الأساسية كان اختلال العقل نتيجة طبيعية، وإذا وُفِّيَت هذه الحاجة بطريقة لا ترضي أدَّى ذلك إلى شذوذ عند الفرد أو عيب في المجتمع. لا بُدَّ للإنسان — مثلًا — من الاتصال بالآخَرِين، فإن كان اتصاله بهم باعتماده عليهم، أو بشعوره بالانفصال عنهم وعدم الاندماج فيهم، فَقَدَ استقلاله وذاتيته، وأمسى ضعيفًا متألمًا مُعاديًا للمجتمع يفتقر إلى حرارة العاطفة. ولا يستطيع المرء أن يحس وحدته مع غيره — مع احتفاظه بذاتيته في الوقت عينه — إلَّا إنِ استطاع أن يتصل بالناس عن طريق المحبة، كما أنَّه لا يستطيع أن يتحد مع الطبيعة دون أن يتلاشى فيها إلَّا عن طريق اتصاله بها بالعمل المنتج. وإذا ظلَّ الإنسان متصلًا اتصالًا أُمويًّا بالطبيعة، أو الأم، أو القبيلة، توقَّف نمو فرديته وعقله، وبقي فريسة سهلة للطبيعة، دون أن يُحسَّ وحدته معها. فالمرء لا يستطيع أن يشعر بالطمأنينة في بيئته، وبالأمن في نفسه، والسيادة على حياته، إلَّا إذا تطوَّر عقله وتطوَّرت عاطفة الحب عنده، واتصل بالعالم الطبيعي والاجتماعي بطريقة إنسانية. ولست بحاجة إلى أن أقول إنَّ الإنسان لا يتجاوز نفسه إلى ما وراءها، ذلك التجاوز الذي فصلنا القول فيه في الفصل السابق إلَّا بطريق الإنشاء أو التدمير. والتدمير يؤدِّي إلى ألم النفس، والإنشاء يُؤدِّي إلى سعادتها. ومن اليسير كذلك أن نرى أنَّ إحساس المرء بذاتيته — ذلك الإحساس الذي يستند إلى استغلال المرء لقواه — هو الذي يُكسب الإنسان قُوَّته. في حين أنَّ كل صورة أخرى من صور الإحساس بالذاتية تقوم على أساس الجماعة تجعل المرء مُعتمدًا على غيره، فيُمسي مخلوقًا عاجزًا ضعيفًا. وأخيرًا أستطيع أن أقول: إنَّ المرء لا يستطيع أن يجعل هذا العالَم عَالَمه إلَّا بمقدار إدراكه للواقع، فإن هو عاش في أوهام، فلن يُغيِّر من الظروف التي تقتضي هذه الأوهام.
وأستطيع بإيجاز أن أقول: إنَّ فكرة الصحة العقلية تصدر عن ظروف الوجود البشري ذاتها، وهي هي بعينها في كل العصور وكل الثقافات. وتتميَّز صحة العقل بالقدرة على الحب وعلى الإنشاء، وبالتخلُّص من الارتباط بالقبيلة والأرض ارتباطًا أُمويًّا، وبالإحساس بالذاتية الذي يقوم على أساس إحساس المرء بذاته باعتبارها أداته في استغلال قُوَاه، وبإدراك الواقع داخل النفوس وخارجها، أي بتقدُّم العقل والنظرة الموضوعية.
وهذا التعريف بالصحة العقلية يتفق وما بشَّر به الرسل والأنبياء. وهذا التوافق بين ما قدَّمنا من تعريف وما نادى به كبار الروحانيين في التاريخ يحمل بعض علماء النفس المُحدَثِين على الاعتقاد بأنَّ هذه الفروض السيكولوجية ليست فروضًا علمية، وإنَّما هي «مُثُل عُليا» فلسفية أو دينية. ويشق عليهم أن يروا أنَّ التعاليم الكبرى في جميع الثقافات إنَّما قامَت على إدراك طبيعة الإنسان إدراكًا عقليًّا، وعلى الظروف اللازمة لتطوُّره تطوُّرًا كاملًا. وإنَّ هذا الإدراك لطبيعة الإنسان، وهذه الظروف اللازمة لتطوُّره لَتعلِّل لنا لماذا كان كبار المُصلِحين في أكثر أرجاء العالم، وفي مختلف عصور التاريخ، يُنادُون بنفس المبادئ، دون أن يُؤثِّر أحدهم في الآخر، أو يتأثر أحدهم بغيره تأثُّرًا لا يكاد يُذكر. فبهذه المبادئ نادى أخناتون وموسى ولاوتسي وبوذا وسقراط ويسوع وغيرهم.
ولا يَشقُّ فَهْم هذه النظريات التي أوردناها هنا إلَّا على علماء النفس المتأثِّرِين بماديَّة القرن التاسع عشر، ومنهم فرويد، الذي عزا نشاط الإنسان إلى ما أسماه «الطاقة المكبوتة»، وهو تفسير فسيولوجي لظاهرة نفسية.
وكما أنَّ الفرد البالغ يُعاني حالةً نفسية شاذة إذا كان يقف من الحياة موقف الطفل الرضيع، فكذلك الجنس البشري يُعتبر في حالة مَرضية إذا كان يقف من الحياة بعد تطوُّرها موقفه منها أيام طفولة البشرية. والفارق بين الطفل والإنسانية البُدائية أنَّ الطفل في دور تكوينه العضوي، في حين أنَّ أفراد الإنسانية البُدائية قد تمَّ نُضْجُهم الذهني والبدني، ولم يتم نُضْجُهم الثقافي. بمعنى أنَّ الطفل في الثقافة البُدائية يُمكن أن ينتقل إلى ثقافة مُتقدِّمة ينمو فيها نمو الأطفال الآخَرِين. وبعبارة أخرى تستطيع أن تقول إنَّ الطفل الرضيع لا يُمكن أن يُحقِّق النضج الروحي والثقافي الذي يتمتَّع به البالغ، في حين أنَّ الإنسان في العصر البدائي كان يجوز له أن يبلغ كمال الإنسان بعد تطوُّره لو توفَّرت له الظروف الثقافية لهذا الكمال. وقد بلغنا في الوقت الحاضر حالة من التفرُّد لا يستطيع أن يستخدم فيها الحرية استخدامًا مثمرًا إلَّا شخصية ناضجة كاملة التطور، فإذا لم يُطوِّر الفرد عقله وقدرته على الحب عجز عن حمل عبء الحرية والفردية، وحاول أن يلتمس لنفسه روابط مُصطَنَعة تُشعره بالاتصال وبامتداد جذوره إلى غيره من الكائنات والمخلوقات.
وسواء تحدَّثنا عن «الصحة العقلية» أو «التطوُّر الناضج» للجنس البشري فإنَّ فكرة الصحة العقلية أو النضوج فكرة موضوعية لا نبلغها إلَّا بعد أن ندرك «موقف الإنسان من الوجود» والضرورات والحاجات البشرية التي تنبثق من موقفه هذا. ويترتَّب على ذلك كما ذكرنا من قبل أنَّ الصحة العقلية لا يُمكن تعريفها في حدود «ملاءمة» الفرد للمجتمع، بل إنَّها على العكس من ذلك يجب تعريفها في حدود ملاءمة المجتمع لحاجات الإنسان، ودور المجتمع في تيسير أو تعسير سد هذه الحاجات. إنَّ صحة الفرد أو عدم صحته من الناحية العقلية ليست أمرًا فرديًّا قبل كل شيء، وإنَّما تتوقَّف على بناء مجتمعه. فالمجتمع السليم يزيد من قدرة المرء على حب الآخرين، وعلى العمل الإنشائي، وعلى تقدم عقله ونظرته الموضوعية إلى الأمور، وعلى إحساسه بذاته إحساسًا يقوم على أساس استخدامه لقواه المنتجة. والمجتمع المريض مجتمع يخلق العداوة المتبادلة، وعدم الثقة، مِمَّا يُحوِّل المرء إلى أداة منفعة واستغلال لغيره، ويحرمه إحساسه بذاته، إلَّا بمقدار ما يخضع لغيره أو بمقدار ما يتحوَّل إلى إنسان آلي. ويُمكن للمجتمع أن يؤدِّي الوظيفتين؛ يُمكنه أن يُساعد على تطوُّر الإنسان تطوُّرًا سليمًا، ويُمكنه أن يعوق هذا التطوُّر. والواقع أنَّ أكثر المجتمعات يؤدِّي الوظيفتين معًا. وهذه هي المشكلة: إلى أي حدٍّ وفي أي اتجاه يكون للمجتمع تأثيره الإيجابي أو تأثيره السلبي.
وكل دراسة للعلاقة بين المجتمع والطبيعة البشرية لا بُدَّ أن تأخذ في الاعتبار أثر المجتمع في الإنسان من معونة أو تعويق في سبيل تطوُّره تطوُّرًا سليمًا، يتفق وطبيعته والحاجات التي تنبثق من هذه الطبيعة. ولمَّا كان أكثر المُؤلِّفين قد اهتموا بالأثر الإيجابي للمجتمع الحديث في الإنسان. فسوف أُهْمِل هذه الناحية في هذا الكتاب، وأوثر بعنايتي الناحية الأخرى المُهْمَلة، الناحية السلبية، أي أثر المجتمع الحديث فيما يشكو الإنسان من عِلَّة.