خاتمة
خرج الإنسان أول الأمر من عالم الحيوان فلتة من فلتات الطبيعة. ثمَّ فقد الاستعداد الغريزي الذي يُنظِّم نشاط الحيوان، فأصبح أشد منه عجزًا، وأقل إعدادًا للنضال في سبيل البقاء. ولكنَّه — لقاء ذلك — نمَّى قدرته على التفكير والخيال، وإدراك الذات، وهي القدرة التي اتخذها أساسًا للسيطرة على نفسه وعلى الطبيعة. وظلَّ الإنسان آلاف الأجيال يعيش على الصيد وجمع الطعام. وكان لا يزال مرتبطًا بالطبيعة، يخشى أن ينفصل عنها. ولم يعزل نفسه عن الحيوان، بل جعل منه إلهًا؛ لأنَّه يُمثِّل الطبيعة. وبعد فترة طويلة من التطوُّر البطيء، بدأ الإنسان يفلح الأرض، ويُنْشِئ نُظمًا اجتماعية ودينية تقوم على أساس الفِلَاحة والزراعة الحيوانية. وخلال هذه الفترة من تاريخه صوَّر لنفسه آلهات يعبدها باعتبارها حملة الخصب الطبيعي، وعاش — كالطفل — مُعتمدًا على خصوبة الأرض، على ثدي الأم الذي يهبه الحياة. ومنذ نحو أربعة آلاف عام خَطَا الإنسان خطوة حاسمة في تطوُّره، وحقَّق لنفسه درجة كبيرة من الانفصال عن الطبيعة، وكاد أن يقطع صلته بها، وبأمه الأرض، ووضع لنفسه هدفًا جديدًا، يرمي من ورائه إلى أن يتم ميلاده، وأن يكون على وعي كامل، فيُمسي إنسانًا كاملًا، مُتحرِّرًا من الروابط القديمة إلى حدٍّ كبير. واسترشد في ذلك بالعقل والضمير، واتَّجه نحو إنشاء مجتمع تربط أفراده أواصر المحبة الأخوية، والعدالة، والحق، حتَّى يصير العالم موطنًا جديدًا تتغلغل فيه الإنسانية الوليدة، يحل محل وطنه المفقود في الطبيعة، والذي لم يعد له سبيل إلى رجعته.
وفي طفرة أخرى منذ نحو خمسمائة عام قبل ميلاد المسيح، ظهرت نُظم دينية كبرى في الهند واليونان وفلسطين وبلاد فارس والصين، تهدف إلى وحدة البشر في ظل عقيدة روحية تكمن وراء الحقائق الظاهرة. وعبَّر الأنبياء والرسل عن هذا الهدف الجديد في مختلف الصيغ والعبارات، ونادوا بوحدة الإنسان، وبالعقل، وبالمحبة والعدالة باعتبارها مُثلًا عليا ينبغي للإنسان أن يُجاهد في سبيل تحقيقها.
وكانت بلاد أوربا الشمالية في ذلك الحين في سُبات عميق. ثمَّ انتقلت إليها هذه الآراء الجديدة، وانقضى ألف عام قبل أن تتشبَّع أوربا بهذه المبادئ. وحوالي عام ١٥٠٠ بعد الميلاد بدأ في تاريخ الإنسانية عهد جديد، وذلك بعد أن اكتشف الإنسان الطبيعة والفرد، ووضع أُسس العلوم الطبيعية التي أخذت تُغيِّر وجه الأرض، وانهار بذلك العالَم المُغلَق، عالم العصور الوسطى، ولم يَعُد الإنسان يلتمس وحدة البشر في الدين، وإنَّما يلتمسها في العلوم الجديدة، وفي الوحدة الاجتماعية والسياسية بين الناس، وفي السيطرة على الطبيعة. واندمج الضمير الخلقي — وهو ميراث التقاليد الدينية — بالضمير العقلي — وهو ميراث الفكر اليوناني — وانتهى الأمر إلى خلق إنساني جديد لم يعهده الإنسان من قبل.
ولمَّا كانت الشعوب الأوربية أحدث الشعوب في تاريخ البشر من الناحية الثقافية، فقد ضخَّمت ثروتها وقوَّت أسلحتها، فتمكَّنت من سيادة العالم لعدة مئات من السنين. ولكنَّها انتكست في القرن العشرين وحدث فيها انقلاب أساسي لم يسبق له مثيل في ماضي الإنسان. ذلك أنَّ الحيل الآلية الجديدة أخذت تحل محل المجهود البدني للإنسان والحيوان بقوة البخار والزيت والكهرباء. وبهذه الحيل الآلية تقدَّمت سُبل المواصلات التي حوَّلت الأرض إلى شبه قارة واحدة، كما حوَّلت الجنس البشري إلى مجتمع واحد، مصير مجموعة واحدة منه يُؤثِّر في مصير الجميع. وبهذه الحيل يتمكَّن الإنسان من نشر روائع الفن والأدب والموسيقى بين جميع أفراد المجتمع الإنساني. وبفضلها أيضًا ازدادت قوى الإنتاج حتَّى بات لكل فرد وجود مادي كريم، وانخفضت ساعات العمل وانحصرت في جزء يسير من النهار.
وظاهر الأمر أنَّ الإنسان قد بلغ اليوم بداية عصر إنساني جديد، أشد ثراءً وأوفر سعادةً، وحقيقة الأمر أنَّ وجود الإنسان ووجود الأجيال المُقبلة مُهدَّد بالأخطار بدرجة لم يعرفها الإنسان من قبل، فكيف حدث ذلك؟
ظفر الإنسان بحريته من السلطات الدينية والدنيوية، ولم يعد له مصدر يستمد منه الحكم سوى عقله وضميره وحدهما. فوقف يرتعد أمام هذه الحرية التي اكتسبها حديثًا ولم يتعوَّدها بعد. لقد تحرَّر «مِنَ» السلطات ولكنَّه لم يتحرَّر «لكي» يتصرَّف من تلقاء نفسه، لكي يكون هو نفسه، ولكي يكون مُنْتِجًا، وأن يكون في يقظة تامة. ومن ثمَّ تراه يُحاول أن يفر من الحرية. وقد استطاع أن يتسلَّط على الطبيعة، وبهذا التسلُّط تفتَّحت له أبواب الفرار.
أنشأ الإنسان الجهاز الصناعي الجديد، فأُلْقِي على عاتقه واجب جديد صار أهم هدف له في حياته. كان من قبل يُكرِّس جهوده للبحث عن الإله وعن الخلاص، وهو اليوم يُكرِّسها للسيطرة على الطبيعة، وتوفير الراحة المادية. ثمَّ كفَّ عن استخدام الإنتاج وسيلة يُحقِّق بها حياة أفضل، وجعل منه وثنًا معبودًا، وغرضًا في ذاته، تسير الحياة نفسها في ركابه. ثمَّ غالَى في تقسيم العمل، وأدائه بطريقة آلية. وتضخَّمت الجماعة التي ينتمي إليها الفرد. فأمسى الإنسان نفسه في هذا الوسط الجديد جزءًا من الآلة لا سيِّدًا عليها. وعاش كأنَّه سلعة من السلع، أو كأنَّه سهم في مشروع اقتصادي، وبات يهدف إلى النجاح في الحياة، والنجاح معناه أن يبيع المرء نفسه بيعًا رابحًا في السوق ما استطاع. وأصبحت قيمته الشخصية تنحصر في قيمته كسلعة تُباع، لا في صفاته الإنسانية، صفات الحب والعقل، أو في قدراته الفنية. وأضحى معنى السعادة استهلاك سلع أفضل وأكثر جدة مِمَّا قبلها، واستيعاب الموسيقى، والقصص السينمائية، واللهو، والجنس، والخمر، والتبغ. ولما لم يكن للإنسان إحساس بذاته إلَّا ما يُتيحه له انخراطه في سلك الأغلبية أصبح قلقًا، غير آمن، يعتمد على رضا الناس عنه. وهو يعيش منفصلًا عن نفسه، يعبد ما أنتجته يداه، كما يعبد الزعماء الذين نصَّبهم بنفسه، كأنَّهم أعلى منه، لا من صُنعه؛ فكأنَّه يعود — بمعنى — إلى ما كان عليه قبل أن يبدأ التطوُّر البشري العظيم قبل الميلاد بآلاف السنين.
الإنسان الجديد عاجز عن الحب وعن استخدام العقل وإصدار القرارات. إنَّه في الواقع عاجز عن تقدير الحياة، ومن ثمَّ فهو مستعدٌّ — بل يميل — إلى تحطيم كل شيء. وعادت الدنيا إلى تجزئتها، وفقدت وحدتها، وعاد الإنسان مرة أخرى يعبد أشياء متنوعة، كما كان قديمًا، مع استثناء واحد، وهو أنَّ هذه الأشياء باتت من صنع الإنسان بعدما كانت جزءًا من الطبيعة.
ولقد بدأ العهد الجديد بفكرة الابتكار الفردي. وأبدى مكتشفو العوالم الجديدة، والطرق البحرية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، كما أبدى رُوَّاد العلم، ومؤسسو الفلسفات الجديدة، وساسة وفلاسفة الثورات العظمى في إنجلترا وفرنسا وأمريكا، ورُوَّاد الصناعة، بل والأمراء واللصوص، أبدى هؤلاء جميعًا قدرة عجيبة على الابتكار الفردي. وبظهور بيروقراطية رأس المال، وإخضاعه للنظام الإداري، بدأت هذه الظاهرة في الاختفاء. فالبيروقراطية من طبيعتها ألَّا تبتدع إلَّا قليلًا، وكذلك الإنسان الآلي يفقد القدرة على الابتكار. بيد أنَّ دعاة النظام الرأسمالي يُعزِّزون دعوتهم بأنَّ هذا النظام يُشجِّع على الابتكار، وليس ذلك إلَّا من باب الحنين إلى قدرة مفقودة، وخداع يستخدمه الرأسماليون لمقاومة النظريات الإصلاحية التي تستند إلى فكرة الابتكار الفردي الإنساني الصحيح. وقد بدأ المجتمع الحديث وهو يأمل أن يخلق ثقافة جديدة تُحقِّق حاجات الإنسان، وكان مثله الأعلى أن يُوفِّق بين الفرد والحاجات الاجتماعية، وأن يقضي على الصراع بين الطبيعة الإنسانية والنظام الاجتماعي. واعتقد الناس أنَّهم يستطيعون بلوغ هذا الهدف بطريقتين؛ أولاهما: زيادة الحيل الآلية للإنتاج التي تسمح بإشباع كل فرد، وثانيتهما: رسم صورة موضوعية معقولة للإنسان وحاجاته الحقيقية. ونستطيع أن نقول — بعبارة أخرى — إنَّ الهدف من مجهودات الإنسان الحديث أن يخلق مجتمعًا سليمًا. أو إنَّ الهدف — بمعنى أخص — خلق مجتمع يُنمِّي فيه أعضاؤه عقولهم إلى حد الموضوعية التي تسمح لهم برؤية أنفسهم، ورؤية الآخَرِين، ورؤية الطبيعة على حقيقتها الواقعية التي يُشوِّهها ادعاء العلم بكل شيء ادعاءً صبيانيًّا أو الكراهية التي تنبعث عن الشذوذ العقلي. ومعنى ذلك إنشاء مجتمع يتطوَّر أعضاؤه إلى درجة الاستقلال التي يُميِّزون فيها بين الحق والباطل، والتي يختارون فيها لأنفسهم، وتكون لهم معتقدات لا أهواء، وإيمان لا خرافة أو آمال غامضة. معناه إنشاء مجتمع يُحبُّ فيه الناس صغارهم، وجيرانهم، وأنفسهم، والناس جميعًا. والطبيعة بأسرها، ويحسون فيه وحدتهم بكل شيء، على احتفاظهم بإحساسهم بالفردية وبالتكامُل الشخصي، مُتجاوِزِين ارتباطهم بالطبيعة بالخَلْق لا بالتحطيم.
بيد أنَّا قد فشلنا في بلوغ هذه الأهداف حتَّى الآن. ولم نستطع أن نصل الفجوة التي تفصل بين الأقلية الممتازة التي استطاعت أن تُحقِّق هذه الأغراض وحاولت أن تعيش وفقًا لها، والأغلبية التي لا تزال في تأخُّر عقلي، كأنَّها تعيش في العصر الحجري، عصر الطوطمية وعبادة الأصنام. أو كأنَّها ما فَتِئت تعيش في عصر الإقطاع. فهل تتحوَّل الأغلبية إلى سلامة العقل؟ أم هل تُراها تستخدم أعظم مكتشفات العقل البشري لأغراضها الشخصية، التي ليس لها سند من العقل، بل تُشرف على حافة الجنون؟ وهل سيستطيع العقلاء منَّا أن يُقدِّموا للعامة صورة عن الحياة الطيبة السليمة، تُحرِّك فيهم القوى الحيوية فيندفعون إلى الأمام؟ إنَّنا في مفترق الطرق، فإذا خطونا الخطوة الصحيحة تقدَّمنا، وإذا أخطأنا الخطى عدنا إلى الوراء.
وفي منتصف القرن العشرين انقسم العالم إلى معسكرين كبيرين، كل معسكر منهما يخشى الآخر، فيُبالغ في تجييش الجيوش وصُنع السلاح. المعسكر الأول يشمل الولايات المتحدة وحلفاءها، والمعسكر الثاني يشمل الاتحاد السوفيتي والدول التي تدور في فلكه. المعسكر الأول يدعو إلى إصلاح النظام الرأسمالي، والمعسكر الثاني يدعو إلى الاشتراكية. ولكل منهما وسائله في التنفيذ، وكل منهما يزعم أنَّ طريقته هي التي تُؤدِّي إلى تقدُّم الإنسان ورُقيِّه. وكل منهما يسعى إلى محو الآخر من الوجود لإنقاذ البشر من براثن الشر المُحدِّق به. ويبحث كل منهما عن فلسفة من القرن التاسع عشر يُعزِّز بها الاتجاه الذي يسير فيه، فالغرب يتحدَّث باسم المبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية، وهي الحرية والعقل والفردية، والشرق يتحدَّث باسم الآراء الاشتراكية التي تدعو إلى المساواة والتماسك البشري. وكل منهما يجر وراءه الملايين من البشر.
ومن قصر النظر أن نرى ما بين نظام الرأسمالية والنظام الشيوعي من فوارق، ونتجاهل ما بينهما من أوجه الشبه الشديد. فكلاهما يقوم على أساس التصنيع، ويهدف إلى زيادة الثروة والكفاية الاقتصادية. وفي كل منهما طبقة إدارية وساسة محترفون يوجهون دفة الأمور. وكلاهما مادي إلى أبعد الحدود. المركزية في كل منهما بلغت ذروتها، متمثِّلة في التكتلات الحزبية وفي إدارة المصانع الكبرى. والإنسان هنا وهناك جزء من الآلة الكبرى، عليه أن يُؤدِّي وظيفته في سهولة ويسر وبغير احتكاك. ويستخدم الساسة في سبيل ذلك الإيحاء السيكولوجي والتشجيع المادي، ووسائل الإرهاب إن دعت إلى ذلك الضرورة. وقد صور أولدس هكسلي اتجاه الغرب في كتابه «العالم الطريف» الذي نقلته إلى اللغة العربية، وصوَّر الاتجاه الشرقي أورول في كتابه الذي نشره بعنوان ١٩٨٤م ونقلته إدارة الثقافة إلى اللغة العربية. ولا تفصل بين الاتجاهين هوة عميقة كما يتبادر إلى الذهن عند النظرة السطحية الأولى.
أي أمل لنا إذن في المستقبل؟ إنِّي أُرجِّح نشوب حرب ذرية تنتهي بتحطيم المدنية الصناعية، وتقهقر العالم إلى المستوى الزراعي البدائي. وإذا لم تَمْحُ الحرب كل شيء في الوجود، فسيقوم الفريق الظافر بتنظيم العالم من جديد بحكومة مركزية وسيلتها القوة واستخدام العنف، ولا فرق في ذلك بين أن يكون مقر الحكومة المركزية في موسكو أو في واشنطن.
ولو فرضنا أنَّ الحرب لن تنشب بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي. فهل نستبشر بمستقبل مُشْرِق؟ لست في ذلك من المتفائلين؛ لأنِّي لا أتوقع — إذا سارت الأمور كما هي في الخمسين أو المائة سنة المقبلة — أن تتغيَّر طريقة الحياة في ظل الرأسمالية أو الشيوعية على حد سواء، فستبقى حتمًا عيشة الإنسان الآلية التي ينفصل فيها عن طبيعته واحتياجاته السيكولوجية. وستبقى الإدارة مُركَّزة في أيدي أفراد قلائل، هدفها توفير الطعام والكساء للجميع، وسيبقى هدف المجتمع أن يُشْبِع كل ما ينشأ عند الناس من رغبات أو نزوات. وسيظل أفراد المجتمع آلات، بل يستبدلون أنفسهم بالآلات كلَّما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ينقادون بغير قيادة رشيدة، ويخضعون لنظام يُفْرَض عليهم بغير جهد كبير. فالإنسان آلة، والآلة كالإنسان. والذكاء العملي في تقدُّم والعقل في تأخُّر. الخطر الداهم يهدنا لأنَّنا نُزوِّد الإنسان بأضخم قوة مادية دون أن يتزوَّد بالحكمة في استخدامها.
وهل من شك في أنَّ هذه الآلية وهذه الحياة الانفصالية ستؤدِّي حتمًا إلى مزيد من الاختلال العقلي؟ إنَّ الحياة تخلو من المعنى، ومن المتعة الصحيحة، ومن الإيمان، ومن الواقع المحسوس. كل إنسان «سعيد» بالمعنى الجديد للسعادة، السعادة المادية، لا يشعر، ولا يعقل، ولا يُحب.
في القرن التاسع عشر فَقدَ الإنسان إيمانه بالله، وفي القرن العشرين فَقدَ إنسانيته. وكان انعدام الإنسانية في القرن التاسع عشر یعني استعمال الشدة والقسوة، وهو في القرن العشرين معناه انقسام الشخصية، أو الشيزوفرانيا، التي يتجه فيها العمل في ناحية، ويتجه الفكر والشعور في ناحية أخرى. كان خطر الحياة في الماضي استعباد الناس، وسيكون خطرها في المستقبل آلية الإنسان. وإن كانت الآلة لا تثور، فالآلة المُزوَّدة بطبيعة الإنسان — أو الإنسان الآلي — لا يُمكنه أن يعيش سليم العقل، فهو إنسان شاذ، يسعى إلى تحطيم نفسه وتحطيم دنياه؛ لأنَّه لا يستطيع أن يحتمَّل الملل الذي ينشأ عن الحياة التي تخلو من المعنى.
الحرب والحياة الآلية إذن هي الخطر الذي يُحدِّق بنا من كل جانب، فهل من سبيل إلى انتهاج طريق آخر؟ لا بُدَّ لنا من الخروج من هذا المأزق الضيق الذي نتحرَّك فيه، ولا بُدَّ لنا من السير خطوة أخرى نُحقِّق بها مولد الإنسانية وتحقيقها لذاتها. ويشترط لذلك أولًا أن نتخلَّص من جو التهديد بالحرب الذي يُحيط بنا فيُضْعِف الإيمان والقدرة على الابتكار. ويجب أن نُؤمِّن للناس حياتهم، وأن نُطبِّق في النطاق الدولي ما طبَّقته الدول العظمى جميعًا في نطاقها الداخلي، وهو اقتسام الثروة نسبيًّا وتقسيم الموارد الاقتصادية تقسيمًا جديدًا يتوفَّر فيه قسط أكبر من العدالة. ويجب أن يُؤدِّي ذلك في نهاية الأمر إلى مزيد من التعاون والتخطيط الاقتصادي الدولي، وإلى إقامة حكومة عالمية، ونزع السلاح نزعًا تامًّا في كل ركن من أركان الأرض. ويجب أن نستبقي الطريقة الصناعية، بشرط ألَّا يكون العمل مركزيًّا، حتَّى نكسب الأسلوب الصناعي «نسبًا إنسانية» صحيحة، ولا نسمح بالمركزية إلَّا إلى الحد الضروري الذي تتطلَّبه احتياجات الصناعة. فإنَّنا في الميدان الصناعي نحتاج إلى اشتراك جميع العاملين في مشروع من المشروعات في إدارة العمل، كي نُمكِّن لهم من المساهمة الإيجابية التي يتحمَّلون فيها تبعة ما يعملون. ونستطيع أن نجد لهذه المساهمة الإيجابية صورة مقبولة. أمَّا في الميدان السياسي فنعود إلى المجالس البلدية والقروية، فنخلق آلافًا من المجموعات التي يلتقي أفرادها وجهًا لوجه، ونُزوِّدهم بالمعرفة الكافية، فيُناقشون ما يُعرض عليهم من موضوعات ويُصْدِرُون فيها القرارات على أساس سليم، ثمَّ تُعرض هذه القرارات بعد ذلك على مجلس النواب المركزي لكي تأخذ صورتها النهائية. أمَّا النهضة الثقافية فيجب أن تتجه نحو الجمع بين العلم والعمل بالنسبة للشباب، كما تتجه نحو تعليم الكبار، وإيجاد نوع جديد من الفن الشعبي والطقوس الدنيوية التي يشترك فيها أفراد الشعب جميعًا.
ولا مفر من خطر الآلية إلَّا في الاشتراكية الإنسانية. وليست المشكلة هي مشكلة شرعية المِلكية، وليست مشكلة المشاركة في الأرباح، إنَّما هي مشكلة الاشتراك في العمل، والاشتراك في الخبرة. إنَّ انتقال المِلكية من جهة إلى أخرى يجب أن يستهدف المشاركة في العمل، ويجب أن يحول دون أن تُوجِّه دوافع الكسب عملية الإنتاج وجهة ضارة بالمجتمع. ويجب أن يُسوَّى بين دخل الأفراد إلى الحد الذي يسمح بإتاحة الأساس المادي لكل فرد للحياة الكريمة، حتَّى لا تخلق الفروق الاقتصادية مستويات معيشية تختلف في أساسها من طبقة إلى أخرى. ويجب أن يسترد الإنسان مكانته في المجتمع. وألَّا يكون قط وسيلة لغيره، وألَّا يكون «شيئًا» يستعمله الآخرون أو يستعمله بنفسه. وينبغي أن ينتهي عهد استغلال الإنسان للإنسان. كما ينبغي أن يكون رأس المال في خدمة العمل، كما تكون الأشياء في خدمة الحياة. يجب أن تتجه النظم الاجتماعية كلها «وجهة إنتاجية» بدلًا من أن تتجه «وجهة استغلالية» ترمي إلى تكديس الثروة كما كانت الحال في القرن التاسع عشر، أو «وجهة استهلاكية سوقية» كما نلمس في مجتمع العصر الحاضر.
ويجب ألَّا تُستخدم وسائل العنف في الإصلاح، كما يجب أن يشمل الإصلاح ميادين الاقتصاد والسياسة والثقافة في آنٍ واحد؛ لأنَّ الإصلاح في ميدان واحد دون الميادين الأخرى لا يُؤدِّي إلى الهدف المطلوب. ولمَّا كان الإنسان البدائي عاجزًا قِبَلَ القوى الطبيعية، فالإنسان الحديث عاجز قِبَلَ القوى الاجتماعية والاقتصادية التي خلقها بنفسه. إنَّه يعبد صُنع يديه، وينحني أمام الأوثان الجديدة، ومع ذلك يُجْرِي على لسانه اسم الله الذي يأمر بتحطيم الأوثان. ولا يستطيع الإنسان أن يحمي نفسه من نتائج جنونه إلَّا بإنشاء مجتمع سليم عاقل يتفق مع الحاجات الإنسانية، التي تمتد جذورها إلى ظروف وجوده نفسها — وذلك هو المجتمع الذي يتصل فيه الإنسان بالإنسان على محبة، ويرتبط فيه بأواصر الأخوة والتماسك، لا بأواصر الأرض والدم، وهو المجتمع الذي يُمكِّنه من تجاوز الطبيعة بالخلق لا بالهدم، والذي يكتسب فيه كل فرد الإحساس باستقلاله الذاتي، فلا يكون تابعًا في قطيع، هو المجتمع الذي تسوده فلسفة توجيهية لا تتجنَّى على الواقع ولا تُرْغِم الإنسان على عبادة الأوثان.
إنَّ بناء مثل هذا المجتمع يقتضينا أن نخطو إلى الأمام خطوة جديدة، فنخرج من مرحلة شبه إنسانية، مرحلة لم يُصْبِح فيها الإنسان بعد كامل الإنسانية. وليس معنى ذلك «نهاية العالم» أو بلوغ «الكمال»، أو تحقيق الانسجام الكامل الذي تتلاشى فيه المشكلات وأسباب الصراع؛ لأنَّ الإنسان بطبيعة وجوده لا بُدَّ أن يُحاط بالمتناقضات التي يتحتَّم عليه حلها دون أن يصل فيها إلى حل نهائي؛ إذ إنَّ الإنسان بعدما يتغلَّب على حالة التضحية البشرية البدائية، سواء في الأديان الساذجة أو في الحروب، وبعدما يتمكَّن من تنظيم علاقته بالطبيعة على أساس معقول لا على أساس أعمى، وبعدما يُخْضِع الأشياء حقًّا لخدمته ولا يجعل منها أصنامًا تُعبد — بعدئذٍ يبقى على الإنسان أن يُواجه المشكلات الإنسانية الحقيقية وأسباب الصراع الإنساني الواقعية — عليه أن يكون مغامرًا، شجاعًا، بعيد الخيال، قادرًا على الألم والمتعة، غير أنَّ قُدراته سوف تكون في خدمة الحياة، وليست في خدمة الفناء. إنَّ المرحلة الجديدة في تاريخ الجنس البشري — إذا حلَّت بنا — سوف تكون للإنسان بداية جديدة، لا نهاية.
علينا اليوم أن نختار بين أمرين أساسيين، لا أقول بين الرأسمالية والشيوعية، ولكن أقول بين «الآلية الإنسانية» (على الصورة الرأسمالية أو الشيوعية) والاشتراكية الإنسانية الاجتماعية. وأكثر وقائع الحياة يُشير إلى أنَّنا — لسوء الحظ — نختار الآلية. ومعنى ذلك في النهاية فقدان العقل وتحطيم كل شيء. ولكن هذه الوقائع كلها لا تقوى على هدم الإيمان بعقل الإنسان، وبحسن نيته وسلامة تفكيره. وما دُمنا نستطيع أن نُفكِّر في حلول أخرى فلم نضلَّ بَعدُ الطريق. وما دمنا نستطيع أن نتشاور وأن نُدبِّر معًا، فلن نفقد الأمل. ولكنِّي أصدقكم القول إنِّي أرى الظلال المعتمة يمتد طولها، وأسمع أصوات الخَلَل العقلي يعلو رنينها.
إنَّنا نبحث عن إنسانية تُحقِّق ما رسمه لنا كبار المُعلِّمين الهداة، ولكنَّا نتعرَّض لخطر الحياة الآلية وانهيار المدنية.
إنَّ الخيار هو في الواقع بين الحياة أو الموت، وبين النعمة أو النِّقمة. وهل فينا من يتردَّد في اختيار الحياة والنِّعمة؟!