ريجينالد بلايك: رجل أعمال ووغد

يتفوق الأدب على الحياة بشخصياته المرسومة بوضوح، والمتسقة في سلوكها. أما الطبيعة، فدائمًا ما تعوزها اللمسة الفنية، وتستمتع بخلق المستحيل. كان ريجينالد بلايك نموذجًا معهودًا من الأوغاد الحَسني التربية الذين يلقاهم المرء عادةً في المنطقة بين ميدان بيكاديلي وتقاطُع هايد بارك كورنر.

كان قاسيًا بلا ذرَّة عطف، وذكيًّا دون بصيرة؛ لذا لم تمثِّل له الحياة أي مشكلة، وكان يتذوَّق ملذَّاتها دون شعور بالذنب. كانت فكرته عن الأخلاق هي مراعاة تعليمات الطبيب من ناحية ومحاذير القاضي من الناحية الأخرى. ونظرًا إلى حرصه الدائم على الالتزام بأوامر هذين الاثنين، فقد ظلَّ متمتِّعًا بصحته في سن الخامسة والأربعين رغم امتلاء جسده، ونجح في تحقيق المعادلة الصعبة التي تتمثَّل في جمع ثروة دون أن يُزج به في سجن هولوواي. كان التنافر بينه وبين وزوجته إيديث (التي كانت تُدعى الآنسة إيبنجتون قبل الزواج) لا مثيل له إلا في خيال كاتب يبحث عن فكرة لمسرحية تعالج المشكلات الاجتماعية. فبينما كانا يقفان أمام المذبح في صباح يوم الزفاف، بدَوَا كأنما يرمزان لمفهومي الشهوانية والبراءة. كانت إيديث تصغره بأكثر من عشرين عامًا، وكانت جميلةً جمال العذراء في لوحات الرسام الإيطالي رافاييل، حتى إنَّ لَمْسَه إياها بدا تدنيسًا للمقدسات. رغم ذلك، في فصل من فصول حياتهما، لعب بلايك، للمرة الأولى في حياته، دور السيد المهذَّب الكريم الأخلاق؛ في حين ارتضت السيدة بلايك لنفسها دورًا وضيعًا، لا يبرِّره كونها امرأة تحب.

كان زواجهما زواج مصلحة بالطبع. ولدواعي الإنصاف، لم يتظاهر بلايك بأنه يكنُّ لها مشاعر تزيد على الإعجاب والتقدير. إن السلوك المنحرف يصير مملًّا أسرع من غيره. وقد رغب بلايك في دغدغة حواسه المتبلِّدة عَبْر عيش حياة جديرة بالاحترام وتجربة صُحبة امرأة صالحة على سبيل التغيير. جذبه وجه الفتاة مثلما يجذب ضوء القمر رجلًا سئم الضوضاء في غرفة حارة، فأسند جبهته على زجاج النافذة. ولأنه معتادٌ على تقديم عروض لشراء أيٍّ مما يريد، فقد عرض الثمن الذي يرغب في دفعه. كان آل إيبنجتون فقراء وكثيري العدد. وكانت الفتاة قد تربَّت على أفكار خطأ حول الواجب، ترسَّخَت في ذهنها بفعل تصوُّر ضيِّق للأعراف والتقاليد، فضلًا عن شغفها بفكرة التضحية في حد ذاتها مثل عادة النساء؛ لذا سمحت لأبيها بالتفاوض للحصول على سعر أعلى، ثم باعت نفسها.

تستلزم الدراما المسرحية من هذا النوع وجود حبيب، إذا أردنا أن تثير تعقيداتها اهتمام العالم الخارجي. كان هاري سينيت شابًّا يتمتَّع بقَدْر لا بأس به من الوسامة، على الرغم من ذقنه التي ينقصها البروز، وقد لعب هذا الدور بدافع من حُسن النية على الأرجح، لا من حُسن الإدراك. رضخ هاري في خنوع لهذا الترتيب الجديد بفضل تأثير إيديث عليه؛ إذ كانت صاحبة الشخصية الأقوى. ونجح كلٌّ منهما في إقناع نفسه بأنه يتصرف بنبل. وفي لقاء الوداع، الذي تحدَّد في الليلة السابقة لعَقْد القِران، كان انفعالهما سيُناسب الموقف لو كانت إيديث هي جان دارك العصر الحديث التي توشك على التضحية بسعادتها في سبيل قضية نبيلة؛ وبما أنها لم تكُن سوى فتاة تبيع نفسها لعيش حياة من الدعة والرفاهية، ودافعها في هذا لا يزيد على الرغبة في تمكين مجموعة من الأقارب، تتفاوت درجة استحقاقهم، من مواصلة العيش بما يتجاوز مصادر دَخْلهم المشروعة، أظن أن عاطفتهما اتسمت بالمبالغة. ذرف كلاهما الدمع الغزير وتفوَّها بعبارات الوداع الأبدي، ولو أن شخصًا أكثر خبرة عرف أن محل إقامة إيديث الجديد لن يبعد سوى بضعة شوارع عن منزلها القديم، وأن الوسط الاجتماعي المحيط بهما لن يتغيَّر بحُكم الضرورة، لربما نصحهما بأن يتحلَّيا بالأمل. وبعد الزواج بثلاثة أشهر، وجدا أنفسهما يجلسان جنبًا إلى جنب على طاولة العشاء نفسها، وبعد قليل من الأخذ والرد الميلودرامي حول ما أطلقا عليه في سرور «تصاريف القدر»، استأنفا وضعهما المعتاد.

كان بلايك يعي تمامًا أن سينيت حبيب إيديث السابق. وعلم كذلك أن نحو ستة رجال آخرين، بعضهم أصغر منه وبعضهم يكبرونه سنًّا، كانوا يحبونها أيضًا. لم يشعر بإحراج، عند ملاقاتهم، يزيد عما قد يشعر به على رصيف البورصة وهو يسلِّم على زملائه من سماسرة الأوراق المالية في نهاية يوم شهد انتقال ثروة طائلة من جيوبهم إلى جيبه. كان معجبًا بسينيت بالذات وكان يشجعه. إن نظامنا الاجتماعي كله، الذي طالما حيَّر الفلاسفة، يدينُ بوجوده إلى تمتُّع قلة فحسب من الرجال والنساء بالذكاء الكافي الذي يمكِّنهم من الاستمتاع بصحبة أنفسهم. كان بلايك يحب صحبة الناس، لكنَّ قليلًا من الناس أحبوا صحبته. رغم ذلك، كان في وسعه دومًا الاعتماد على سينيت الشاب لكسر رتابة الحوار في المنزل. جمع الرجلَين حبُّهما الرياضة. وبما أن معظمنا يتحسَّن حُكمه على الآخرين بعد أن تتوثق معرفتنا بهم، بدأ كلٌّ منهما يرى سمات حَسَنة في الآخر.

في إحدى الليالي، بينما كان الزوجان جالسَين وحدهما يُنصتان إلى وقع خطوات سينيت على الرصيف الخالي بعدما غادر منزلهما، قال بلايك لزوجته، بأسلوب يجمع بين الجد والهزل: «ذلك هو الرجل الذي كان يتعيَّن عليك الزواج منه.» ثم أضاف: «إنه شاب صالح، ليس آلةً لجمع المال مثلي.»

وبعد ذلك بأسبوع، قال سينيت فجأةً لإيديث وهما جالسان وحدهما: «إنه رجل أفضل مني، أنا لا أجيد سوى الخُطب الرنانة، وأقسم لكِ بشرفي أنه يحبك. أليس من الأفضل أن أسافر إلى الخارج؟»

ردَّت إيديث: «كما تحب.»

فسألها: «ماذا ستفعلين حينئذٍ؟»

أجابته ضاحكة: «سوف أقتل نفسي، أو أهرب مع أول رجل يطلب مني ذلك.»

وهكذا، بقي سينيت في البلاد.

ساعد بلايك على تسهيل الأمور لهما. فلم يجدا داعيًا إلى الشعور بالخوف أو مراعاة الحذر. في واقع الأمر، كان المسار الأكثر أمنًا لهما هو التصرُّف بطيش، وقد اتبعا هذا المسلك. فالمنزل كان مفتوحًا على الدوام لاستقبال سينيت. وفي حال انشغال بلايك بما يمنعه عن الخروج بصحبة زوجته، كان يقترح أن تخرج مع سينيت بدلًا منه. هز أصدقاؤه في النادي أكتافهم في حيرة. وتساءلوا: أهو خاضع كليًّا لسيطرة زوجته؛ أم سئم منها، وينفِّذ خطة شيطانية من بنات أفكاره؟ رأى معظم معارفه أن الاحتمال الثاني يبدو أكثر معقولية.

وبمرور الوقت بلغت الشائعات بيت أبوَيها. صبَّت السيدة إيبنجتون جام غضبها على زوج ابنتها. لكن الأب، وهو رجل حذِر بطبعه، مال إلى لوم ابنته لأنها لا تُراعي الحيطة في تصرفاتها.

فعلَّق قائلًا: «سوف تدمِّر كل شيء.» وأضاف: «لماذا لا تراعي الحذر بحق الجحيم.»

قالت السيدة إيبنجتون: «هذا الرجل يخطِّط للتخلُّص منها.» ثم أردفت: «سوف أخبره برأيي هذا صراحةً.»

رد عليها زوجها متحدثًا بأريحية الرجل في بيته: «يا لكِ من حمقاء يا هانا!» ثم أضاف: «لو اتضح أنكِ على حق، فسوف تعجِّلين بحدوث الأمر؛ وإن كنتِ مخطئة، فسوف تحيطينه علمًا بما لا حاجة له بمعرفته. دعي الأمر لي. يمكنني جسُّ نبضه دون أن أفصح عن شيء، وفي غضون ذلك تحدثي أنتِ مع إيديث.»

وهكذا، تقرَّرت كيفية التعامل مع المسألة، بَيْد أن الحوار بين الأم وابنتها لم يحسِّن من الوضع شيئًا. تحدثت السيدة إيبنجتون من المنظور الأخلاقي التقليدي، لكن إيديث صارت تتمتع بفكر مستقل، وكانت تفكر متأثرةً بأجواء خبيثة. صاحت السيدة إيبنجتون، بعدما أثار تبلُّد إحساس الفتاة غضبها: «ألا تشعرين بالخزي؟»

ردت إيديث: «كنت أشعر به قبلًا، قبل أن آتي لأعيش هنا. هل تعلمين ما يمثله هذا المنزل لي، بما يحتويه من مرايات مذهبة وأرائك وسجاجيد ناعمة؟ هل تعلمين ما أكون، وما كُنتُه طوال السنتين الماضيتَين؟»

نهضت الأم وعلى وجهها نظرة مذعورة متضرِّعة، في حين توقفت الابنة عن الحديث وتحولت نحو النافذة.

تابعت السيدة إيبنجتون حديثها قائلةً: «لقد ظننا جميعًا أن هذا الزواج كان في مصلحة الجميع.» استأنفت الفتاة حديثها في سأم دون أن تستدير.

قالت: «كل عمل تافِه تقرَّر فعله في يوم من الأيام ارتُكب بدافع أنه في مصلحة الجميع. أنا نفسي ظننت أنه الحل الأفضل. كل شيء كان سيصير في غاية البساطة لو لم نكُن على قَيْد الحياة. لا تطلبي مني أن نتحدث. فأنتِ على حق في كل ما تقولينه.»

ساد الصمت بعض الوقت، وتعالت دقات الساعة الخزفية الألمانية فوق رف المدفأة، كأنما تقول: «أنا الزمن، أنا هنا. أيها البشر الفانون، لا تضعوا خططكم وتنسوني؛ أنا قادر على تغيير أفكاركم ورغباتكم. لستم سوى دُمًى خاضعة لتحكُّمي.»

وأخيرًا سألتها السيدة إيبنجتون: «ماذا تنوين فعله إذَن؟»

ردَّت الفتاة: «أنوي؟ أنوي فعل الصواب بالطبع. جميعنا ننوي ذلك. سوف أخبر هاري أن يبتعد عني وأودعه بالقليل من الكلمات المختارة بعناية، وسوف أتعلم أن أحب زوجي وأن أرضى بحياة زوجية هادئة وهانئة. آه، ما أسهل النوايا!»

وتغضن وجه الفتاة في ضحكة جعلتها تبدو عجوزًا. في تلك اللحظة، كان وجهها قاسيًا وشريرًا، وتذكرت الأم بلوعةٍ مفاجئةٍ وجه ابنتها الآخر، الذي يشبه هذا الوجه كثيرًا ولا يشبهه مطلقًا رغم ذلك، وجه الفتاة البريء الحلو الذي كان يُضفي على بيتها الكئيب لَمْحة وحيدة من لمحات النُّبل. ومثلما نرى امتداد الأفق كله في وَمْضة البرق، رأت السيدة إيبنجتون حياة طفلتها تتجسَّد أمام عينيها. اختفت الغرفة المذهَّبة المزدحمة بالأثاث. وجدت نفسها تلعب مع طفلة شقراء واسعة العينين، الوحيدة التي فهمت الأم شخصيتها ممَّن أنجبَت، ألعابًا ممتعة في ضوء الشفق، تحاوطهما ظلال عُلِّيَّة المنزل الضيقة. في لحظة كانت تصير الذئب الذي يهاجم إيديث، ذات الرداء الأحمر، بالقبلات. وفي اللحظة التالية كانت الأمير في قصة سندريلا، ثم صارت أختيها الشريرتين. لكن في لعبتهما المفضلة، كانت السيدة إيبنجتون تتظاهر بأنها أميرة جميلة سحَرَها تنين شرير فصارت عجوزًا هرِمة. لكن إيديث ذات الشعر المموَّج قاتلت التنين، الذي كان حصانًا هزَّازًا بثلاث أرجُل، وأزهقت روحه وهي تصيح وتلوح بشوكة تحميص الخبز. عندئذٍ كانت السيدة إيبنجتون تتحوَّل مجددًا إلى أميرة جميلة ثم ترتحل مع إيديث عائدةً إلى بلدتها وأهلها.

وبينما كانتا تلعبان معًا في وقت الغروب، كانت تنسى سوء سلوك زوجها المستبد، ولجاجة الجزار الذي تتعامل معه الأسرة، وتفاخُر ابنة العم جين التي لديها خادمان بمنزلها.

كانتا تفرغان من اللعب، وحينها كان الرأس الصغير ذو الشعر المموَّج يستريح في حضنها طوال «خمس دقائق من الحب»، بينما يصوغ عقل الفتاة الصغير، الذي لا يهمد، السؤالَ الأبدي الذي يطرحه الأطفال منذ الأزَل بآلاف الصور والأشكال: «ما الحياة يا أمي؟ أنا ما زلت صغيرة، لكني أفكر وأفكر حتى ينتابني الخوف. قولي لي يا أمي، ما الحياة؟»

تُرى هل تعاملت مع تلك الأسئلة بحكمة؟ ألم يكن من الأفضل أن تنظر إليها بجدية أكبر؟ هل يمكن على أي حال أن يتدبر المرء حياته مسترشدًا فحسب بالأقوال المأثورة في كتب تعليم الخط؟ لقد أجابت على أسئلة ابنتها بالإجابات نفسها التي تلقتها منذ زمن بعيد عندما كانت تتساءل. ألم يكن من الأفضل أن تفكر بنفسها؟

فجأةً وجدت إيديث راكعة على الأرض بجوارها، وهي تخاطبها قائلة: «سأحاول أن أفعل الصواب يا أمي.»

يا لتلك العبارة الطفولية القديمة، التي نهتف بها جميعًا! فنحن ما زلنا أطفالًا، حتى تُقبِّلنا الطبيعة الأم وتأمرنا بالخلود إلى النوم.

أحاطت كلٌّ منهما الأخرى بذراعَيها، وهكذا عادتا أمًّا وطفلتها. ومرَّة أخرى، عثر عليهما ضوء الشفق، الذي طالما صاحبهما في العُلِّيَّة القديمة، وهو ينسل من الشرق نحو الغرب.

حقَّق اللقاء بين الطرفَين الذكوريين مزيدًا من النتائج، لكنه لم يجرِ بكياسة وحرص كما تمنَّى السيد إيبنجتون، رغم أنه طالما افتخر بلباقته. فقد تجلَّت على الرجل أمارات الإحراج عندما حانت لحظة الحديث، وشرع يتفوَّه بتعليقات فارغة كان من الواضح أنها محاولة لتأجيل الكلام في موضوع مزعج، حتى إن بلايك، الذي طالما اتسم بصراحة فظَّة، بَيْد أنها لم تنمَّ عن سوء خُلق، سأله: «كم تريد؟»

شعر السيد إيبنجتون باضطراب.

أجاب مرتبكًا: «لا، لا أقصد ذلك، ليس هذا ما جئت بشأنه.»

فسأله بلايك: «ما هو ذلك الشأن إذَن؟»

لعن السيد إيبنجتون نفسَه في سِرِّه على حماقته، التي ربما كان لها ما يبرِّرها. لقد اعتزم أن يلعب دور المحقِّق الذكي، الذي يتحصل على المعلومات دون أن يكشف أوراقه؛ بَيْد أنه وجد نفسه، دون قصد، واقفًا على منصة الشهود.

رد بإجابة باهتة: «لا شيء أبدًا، لقد جئتُ للاطمئنان على أحوال إيديث فحسب.»

رد بلايك: «لم تتغير أحوالها منذ عشاء ليلة أمس، عندما كنت أنت حاضرًا.» ثم أردف قائلًا: «هيا، أفصِح عما تريد قوله.»

بدا للسيد إيبنجتون أن الإفصاح صار الخيار الأفضل، فقرَّر أخذ زمام المبادرة.

قال وهو يدور بعينَيه سريعًا في أرجاء الغرفة كي يتأكد أنهما وحيدَين: «ألا تظن أن سينيت الشاب يتردَّد أكثر من اللازم على هذا البيت؟»

حدَّق بلايك فيه.

تابع الرجل حديثه: «نحن نعلم بالطبع أنه لا داعي إلى القلق، فسينيت شاب في غاية اللطف، وإيديث لا غبار عليها. الأمر سخيف قطعًا، لكن …»

سأل بلايك: «لكن ماذا؟»

رد السيد إيبنجتون: «الناس سوف يتحدثون.»

سأل بلايك مجددًا: «ماذا سيقولون؟»

هزَّ الرجل الآخر كتفَيه في حيرة.

عندئذٍ نهض بلايك. كانت ترتسم على وجهه نظرة قبيحة عندما يشعر بالغضب، وكان يميل إلى استخدام ألفاظ فجة.

قال ما معناه: «قل لهم أن يهتموا بشئونهم، ويدَعوني أنا وزوجتي في حالنا.» بَيْد أنه عبَّر عن نفسه بعبارات أشد غلظة.

هتف السيد إيبنجتون: «لكن يا عزيزي بلايك، بربك، هل ترى حكمة في ذلك؟ لقد كانا يميلان بعضهما إلى بعض قبلًا، لم تكُن علاقة جدية، لكنها تضفي مصداقية على الشائعات. أرجو أن تلتمس لي العذر، فأنا أبوها، ولا أحب أن أسمع الناس تلوك سيرة ابنتي.»

رد زوج ابنته بخشونة: «لا تُنصت إذَن إلى ثرثرة حفنة من الحمقى.» بَيْد أن تعبيرًا أهدأ ارتسم على وجهه في اللحظة التالية، ثم وضع يده على ذراع الأب.

وأردف قائلًا: «ربما يمتلئ العالم بالنساء الصالحات، لكني لا أعرف سوى واحدة منهن، وهي ابنتك. لو جئت لتخبرني أن بنك إنجلترا يمر بمصاعب مالية، كنت سأنصت إليك.»

لكن كلما زادت قوة الإيمان، تعمقت جذور الشك. لم يتفوَّه بلايك بكلمة أخرى حول هذا الموضوع، وظلَّ سينيت ضيفًا مُرحَّبًا به في المنزل كسابق عهده. رغم ذلك، كانت إيديث تلاحظ، عندما ترفع عينَيها فجأةً، أن عينَي زوجها تحدِّقان فيها بنظرة مضطربة، نظرة مخلوق أعجم يحاول الفهم؛ وكثيرًا ما كان ينسلُّ خارجًا وحده في المساء ويعود بعد ساعات متعبًا وعلى ملابسه آثار طين.

حاول أيضًا إظهار عاطفته نحوها. وكان هذا أكبر خطأ ارتكبه. كانت ستتحمل حدَّة الطبع، أو حتى سوء المعاملة. لكن مداعباته المرتبكة، وعبارات الحب الخرقاء المتلعثمة التي صار ينطق بها كانت تثير اشمئزازها. لم تكُن تدري أتضحك عليه أم تصفع وجهه المتطلع نحوها. كان تعلُّقه السمج بها أشبَه بعطر ثقيل يكاد يخنقها. باتت تتمنى أن تنفرد بنفسها للحظات وجيزة كي تستجمع أفكارها! لكنه كان يُلازمها نهارًا وليلًا. في بعض الأحيان، كانت تراه يتضخم حين يعبُر الغرفة تجاهها حتى يصير فوقها، فيبدو لها وحشًا بلا ملامح كالذي يراه الأطفال في الكوابيس. حينئذٍ كانت تظل جالسة، وشفتاها مُطبَقتان بإحكام ويداها متشبِّثتان بالكرسي خشية أن تشرع في الصراخ.

لم تعُد تفكِّر إلا في الهروب منه. وفي أحد الأيام، جمعت في عجالة بعض اللوازم الضرورية في حقيبة يد صغيرة وتسلَّلَت من المنزل دون أن يشعر بها أحد. ثم ذهبت إلى محطة تشارينج كروس، لكن القطار الأوروبي كان سينطلق بعد ساعة؛ لذا أُتيح لها بعض الوقت كي تتدبر المسألة.

عندئذٍ بدأت تشكُّ فيما قد يحقِّقه هروبها من نفع. فمخزونها الضئيل من المال سوف يتبدَّد سريعًا؛ فكيف ستعيش وقتها؟ سوف يعرف مكانها ويتتبعها. الوضع كله ميئوس منه!

ثم فجأةً استحوذت عليها رغبة عارمة في الحياة، وشعرت بدمائها الشابة تفور غاضبة في وجه اليأس. لمَ يجب عليها أن تستسلم للموت قبل أن تعرف الحياة؟ لمَ ينبغي لها أن تركع أمام هذا الطاغوت المدعو «احترام الناس»؟ كانت البهجة تدعوها؛ لم يمنعها من مدِّ يدَيها نحوها سوى جُبنها. عادت إلى منزلها بعدما صارت امرأة مختلفة، امرأة يحدوها الأمل.

بعد ذلك بأسبوع، دلف رئيس الخدم إلى غرفة الطعام في منزل بلايك وسلَّمَه خطابًا مُوجَّهًا إليه، مكتوبًا بخط يد زوجته. تناوله منه دون كلمة، كأنما كان يتوقعه. أبلغه الخطاب ببساطة أن زوجته قد هجرته إلى الأبد.

•••

العالم صغير، والمال يشتري الكثير من الخدمات. كان سينيت قد خرج كي يتمشَّى، وترك إيديث وحدها في غرفة الاستقبال البالغة الصِّغَر في شقتهما بمدينة فيكامب الفرنسية. كانا قد وصلا إلى المدينة منذ يومين. سمعت إيديث الباب ينفتح ثم يغلق، ثم رأت بلايك واقفًا أمامها.

نهضت في خوف، لكنه طمأنها بإيماءة منه. كان يحيط به وقار هادئ، بدا لها غريبًا.

سألته: «لمَ تبعتني؟»

أجابها: «أرغب في أن تعودي إلى المنزل.»

صاحت: «أعود إلى المنزل؟» ثم أردفت: «لقد جُننتَ حتمًا. ألا تعلم …؟»

قاطعها محتدًّا: «لا أعلم شيئًا، ولا أريد أن أعلم شيئًا. عودي إلى لندن في الحال. لقد رتَّبتُ كل شيء؛ لن يشك أحد في الأمر. لن أكون بالمنزل؛ ولن تريني مجددًا أبدًا، لكن سيُتاح لك فرصة إصلاح خطئك؛ بل خطئنا.»

استمعَت إليه. لم تتسم طبيعتها بنُبل كبير، وكانت تتملكها رغبة قوية في نيل السعادة دون دفع الثمن. قال لها ألا تعبأ بسُمعته. سيقول الناس إنه قد عاد إلى الوسط الخبيث الذي جاء منه، وقليل منهم سوف يفاجئهم هذا. سوف تستمر حياته كسابق عهدها، وسوف يُشفق الناس عليها فحسب.

استوعبت خطته إلى حدٍّ معقول؛ بدا لها قبول عرضه تصرُّفًا وضيعًا منها، وعارضته بحجج واهية. لكنه تغلَّب على جميع اعتراضاتها. أخبرها أنه سيفضِّل، من أجل مصلحته الخاصة، أن ترتبط الفضيحة باسمه هو لا باسم زوجته. وبينما يكشف لها عن تفاصيل مخططه، بدأت تشعر أنها تؤدي له معروفًا بقبولها إياه. بل وجدت نفسها تضحك على تقليده لما سيقوله فلان وعلان من معارفهم. ارتفعت روحها المعنوية؛ فالمسرحية التي أوشكت أن تصير مأساة مؤلمة تحولت إلى ملهاة.

بعدما رتَّبا كل شيء، نهض كي يغادر، ومدَّ لها يده. وبينما تنظر إلى وجهه جذبها شيء ما في التعبير المرتسم على شفتَيه. قالت له: «سوف ترتاح مني.» ثم أضافت: «لم أجلب لك سوى المتاعب.»

ردَّ قائلًا: «آه، المتاعب.» ثم أردف قائلًا: «ليت الأمر اقتصر على ذلك! الرجل يستطيع تحمُّل المتاعب.»

سألته: «ماذا جلبتُ لك غير ذلك؟»

دارت عيناه بلا هدف في أرجاء الغرفة. ثم قال: «علموني الكثير من الأشياء في صباي. كانت أمي والآخرون حسني نية، لكني اكتشفت عندما كبرت أن ما علموني إياه لم يكن سوى أكاذيب؛ لذا صرت أعتقد أن الخير في العالم غير حقيقي، وأن الشر يكمن في جميع الناس والأشياء. ثم حدث أن …»

حينئذٍ كانت عيناه الشاردتان قد رستا عليها، فأنهى كلامه بغتة قائلًا: «وداعًا»، وفي اللحظة التالية غادر المنزل.

جلست إيديث تفكِّر في حيرة فيما كان يقصده. ثم عاد سينيت، فتبخَّرَت كلماته من ذاكرتها.

•••

تعاطف الكثير من الناس مع حرم السيد بلايك. لقد كانت زوجة في غاية اللطف، وكان في وسع زوجها أن يظلَّ وفيًّا لها، لكن بلايك، على حد تعبير أصدقائه، «طالما كان وغدًا».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤