صاحِبُ الذهن الشارد
دعوته لتناوُل العشاء في بيتي يوم الخميس، كي يلتقي بعض الأصدقاء الذين يتوقون للتعرف عليه.
قلت له في البداية، متذكرًا مواقفه السابقة: «حذارِ أن يختلط عليك الموعد، فتأتي يوم الأربعاء.»
ضحك بمودة ظاهرة وهو يبحث في أرجاء الغرفة عن مفكرته، ثم رد قائلًا: «لن أستطيع المجيء يوم الأربعاء، سأكون في مانشن هاوس، أرسم مخططات أولية لفساتين الحضور. ثم سأسافر إلى اسكتلندا يوم الجمعة، كي أحضر افتتاح المعرض الفني هناك يوم السبت. سوف آتي قطعًا هذه المرَّة. أين ذهبت تلك المفكرة بحق الجحيم؟ لا يهم، سوف أدوِّن الموعد هنا؛ ها أنا ذا أكتبه أمامك.»
راقبته وهو يسجل الموعد، يوم الخميس، على ورقة كبيرة، ثم شاهدته يثبتها بدبوس على مكتبه. فغادرته شاعرًا بالرضا.
في مساء الخميس حدثت زوجتي بينما أرتدي ملابسي قائلًا: «ليته يأتي حقًّا».
سألتني في تشكُّك: «هل أنت متأكد من أنك ذكرت له الموعد بوضوح؟» فأنبأني حدسي أنه أيًّا كان ما سيحدث الليلة، فسوف تلومني عليه في النهاية.
حلَّت الساعة الثامنة، ومعها حلَّ الضيوف على المنزل. وفي الثامنة والنصف، استدعت الخادمة زوجتي من غرفة الاستقبال دون أن تذكر السبب، ثم أبلغتها بأن الطباخة قد عقدت العزم على أن تنفض يدَيها من مسألة الإشراف على العشاء، إذا تأخر تقديمه أكثر من ذلك.
عادت زوجتي وأخبرتنا أنه من المستحسن بدء العشاء الآن إذا كنا نرغب في تناول أي طعام الليلة. وبدا جليًّا أنها تفكر في أني كنت أخادعها متظاهرًا بأنه سيأتي، ولو كنت رجلًا حقيقيًّا كنت اعترفت صراحةً منذ البداية بأنني نسيت دعوته.
بينما نتناول أطباق الحساء والسمك، شرعتُ أروي قصصًا طريفة تشهد على عدم دقة مواعيده. وعندما شرع الخدم في تقديم الطبق الرئيسي، بدأ الكرسي الفارغ يشع جوًّا من الكآبة، وبوصول طبق اللحم المشوي كانت دفة الحديث قد تحوَّلَت إلى ذكر الأقارب المتوفين.
وفي يوم الجمعة، في الساعة الثامنة والربع، كان يحث الخطا نحو باب المنزل ثم أخذ يضرب الجرس بإلحاح. وعندما سمعت صوته في الردهة، نزلت للقائه.
صاح مبتهجًا: «آسف على التأخير. سائق الأجرة الأحمق أوصلني إلى شارع ألفريد بلايس بدلًا من …»
قاطعته قائلًا: «ما الذي أتى بك إلى هنا؟»، لم أشعر برغبة في الترفُّق به، فهو صديق قديم ويمكنني معاملته بوقاحة.
ضحك وضربني بكفه على كتفي قائلًا: «ما هذا الكلام العجيب! جئت لتناول العشاء بالطبع، إني أتضوَّر جوعًا.»
رددتُ بخشونة: «إذَن فلتبحث عن مكان آخر لتأكل فيه، فلا يوجد عشاء لك هنا.»
قال: «ماذا تقصد بقولك هذا؟ أنت دعوتني لتناوُل العشاء.»
أخبرته بأنني لم أفعل شيئًا من هذا القبيل، مضيفًا: «لقد دعوتك على العشاء يوم الخميس، لا الجمعة.»
حدَّقَ فيَّ غير مصدِّق، ثم تساءل: «كيف ترسَّخ في ذاكرتي أن الموعد الجمعة؟»
أجبته قائلًا: «لأن ذاكرتك من النوع الذي يترسَّخ به أن الموعد يوم الجمعة عندما يكون الخميس.» ثم أضفت: «كنت أظن أنك ستسافر الليلة إلى إدنبرة.»
فصاح: «يا إلهي! لا بد أن أسافر اليوم بالفعل.»
ودون أن ينطق بكلمة أخرى، أسرع خارجًا، واندفع نحو الطريق مناديًا على سيارة الأجرة التي صرفها لتوِّه.
عدت إلى حجرة المكتب وفكرت في أنه سوف يقطع الطريق كله حتى اسكتلندا مرتديًا ثياب السهرة، وسيضطر إلى إرسال ساعي الفندق في الصباح كي يبتاع له بذلة جاهزة. وسرَّني هذا.
أما عندما يكون هو المضيف، تسير الأمور على نحو أغرب. أتذكَّر أنني زُرته يومًا في منزله العائم. كانت الساعة تجاوزت الثانية عشرة ظهرًا بقليل، وكنا نجلس على حافة القارب، الراسي في بقعة منعزلة بين بلدة والنجفورد وهويس دايز لوك، وأقدامنا متدلية في النهر. فجأةً ظهر عند منعطف في النهر مركبان شراعيان على متن كلٍّ منهما ستة أشخاص في كامل أناقتهم. وما إن لمحونا حتى شرعوا يلوحون لنا بالمناديل والشماسي.
لوَّحتُ لهم قائلًا: «أهلًا»، ثم قلت له: «انظر هناك أشخاص يلوِّحون لك.»
ردَّ دون أن ينظر: «جميع الناس يلوِّحون لبعض في هذه النواحي، هم على الأرجح أناس من بلدة أبنجدون يحتفلون على ظهر قارب.»
اقترب المركبان أكثر. وما إن صارا على بعد مائتي ياردة من قاربنا نهض رجل كبير السن من مقعده في مقدمه القارب وصاح مناديًا علينا.
سمع ماكواي صوته فجفل حتى كاد يسقط في الماء ثم صاح: «يا إلهي، لقد نسيت كل شيء عن هذا الأمر.»
سألته: «أي أمر؟»
أجابني قائلًا: «إنهم عائلات بالمرز وجراهام وهندرسون. كنت قد دعوتهم جميعًا على الغداء. لا يوجد على متن القارب سوى شريحتَي لحم ضأن ونصف كيلوجرام من البطاطس. وقد أعطيت الخادم إجازة اليوم.»
وفي يوم آخر، كنت أتناول طعام الغداء معه في نادي جونيور هوجارث، حين مرَّ بجوارنا رجل يُدعى هاليارد، وهو صديق مشترك.
جلس هاليارد أمامنا على الطاولة ثم سألنا: «ماذا ستفعلون عصر اليوم؟»
رددت: «سوف أبقى هنا لكتابة بعض الخطابات.»
أما ماكواي فرد قائلًا: «تعالَ معي إذا لم يكن لديك شيء تفعله. سوف أصطحب لينا بالسيارة إلى ريتشموند. لدينا متسع لك في المقعد الخلفي.» (و«لينا» كانت المرأة الشابة التي تذكر ماكواي أنها خطيبته. واتضح بعد ذلك أنه قد خطب ثلاث فتيات أخريات في الفترة نفسها. لكنه نسي كل شيء عن الفتاتَين الأخريَين.)
رد هاليارد: «حسنًا إذَن»، وانطلقا معًا في عربة يجرُّها حصان.
وبعد ساعة ونصف، دلف هاليارد إلى غرفة التدخين بالنادي ثم ألقى بنفسه على أحد الكراسي، وبدا متعبًا وكاسف البال.
سألته: «ألم تذهب إلى ريتشموند مع ماكواي؟»
رد: «ذهبت بالفعل.»
سألته: «هل تعرَّضتم لحادث سيارة؟»
أجابني: «نعم.»
كانت ردوده مقتضبة. فسألته مجددًا: «هل تضرَّرَت السيارة؟»
قال: «لا لم تتضرَّر، أنا فقط مَن تضرَّر.»
بدا أنه تعرَّض لصدمة كان لها تأثير بالِغ الشدة على أعصابه وملكته اللغوية. انتظرت أن يوضِّح لي الأمر، وبعد برهة، حكى لي ما حدث.
قال: «كنا قد بلغنا حي بوتني، بعدما كِدنا نصطدم بعربة ترام، وبدأنا نصعد الطريق المنحدر عندئذٍ لقي ماكواي منعطفًا في الطريق فاستدار فجأةً بالسيارة. وأنت تعلم أسلوبه في التعامل مع المنعطفات، فهو عادةً ما يصعد بالسيارة على حافة الرصيف في الجهة المقابلة من الطريق ثم يرتطم بعمود الإنارة. وبالطبع كنت مستعدًّا لمواجهة تلك المواقف، لكني لم أتوقَّع قطُّ أن ينعطف بالسيارة في هذه اللحظة، كل ما أتذكَّره بعد ذلك أنني وجدتُ نفسي جالسًا في منتصف الطريق محاطًا بمجموعة من الحمقى يحدِّقون فيَّ بابتسامات عريضة.
ومن الطبيعي أنني احتجت إلى بعض الوقت كي أدرك أين أنا وماذا حدث، وعندما نهضت كان ماكواي ولينا قد ابتعدا مسافة لا بأس بها بالسيارة. ركضت خلفهما نحو خمسمائة متر وأنا أصيح بأعلى صوتي، ورافقتني جماعة من الصبية، جميعهم يصيحون مثل المجانين، واليوم عطلة. لكن لا حياة لمَن تُنادي. فركبت الحافلة راجعًا.»
أخذ يشتكي من آلام بجسده وأعلن أنه سيعود إلى البيت. اقترحت عليه أن يستقل سيارة أجرة، لكنه رد بأنه يفضِّل المشي.
وفي المساء، لقيت ماكواي في مسرح سانت جيمس. كانت ليلة افتتاح أحد العروض المسرحية وكان يرسم لوحات لصالح جريدة «ذا جرافيك» المصورة. ما إن رآني حتى شق طريقه بين الجموع متجهًا نحوي، ثم قال: «صديقي، كنت أود رؤيتك، هل اصطحبت هاليارد معي في المقعد الخلفي إلى ريتشموند عصر هذا اليوم؟»
أجبته: «نعم، اصطحبته معك.»
رد في حيرة بالغة: «هذا ما تقوله لينا. لكني أقسم أنه لم يكن بالسيارة عندما بلغنا فندق كوينز.»
قلت له: «هذا صحيح؛ لأنك أنزلته في حي بوتني.»
كرر ورائي: «أنزلته في بوتني! لا أتذكر أنني فعلت ذلك مطلقًا.» رددت: «هو يتذكَّر. سَلْه. سوف يحكي لك كل شيء.»
ظنَّ الجميع أنه لن يتزوج أبدًا؛ فمن غير المعقول أن يتذكر تفاصيل مثل تاريخ الزفاف، ومكان الكنيسة، واسم العروس كلها في صباح يوم واحد. وإذا تمكَّن بالفعل من الوصول إلى مذبح الكنيسة فسوف ينسى لماذا جاء، وسوف يزوج العروس إلى إشبينه. كان هاليارد يظن أنه متزوج بالفعل، لكن هذا الحدث انمحى من ذاكرته. وأنا نفسي كنت متأكدًا من أنه لو تزوَّج بالفعل، فسوف ينسى كل شيء عن هذا الأمر في اليوم التالي.
لكننا كنا جميعًا مخطئين. وبمعجزةٍ ما تمَّت مراسم زواجه، ما قد يفضي إلى متاعب لاحقة إذا اتضح أن هاليارد كان محقًّا في ظنه (المبرر كليًّا). أما فيما يتعلَّق بمخاوفي، فقد طردتها جانبًا في اللحظة التي رأيت فيها العروس؛ إذ كانت امرأة شابة ساحرة ذات وجه باشٍّ، ولم تبدُ من النساء اللاتي قد يعطينه فرصة كي ينسى كل شيء عنها.
لم ألقَه منذ زواجه، الذي تم في الربيع. وبينما كنتُ عائدًا من رحلة إلى اسكتلندا، قرَّرتُ التوقف لبضعة أيام في بلدة سكاربو، بما أنني لم أكُن في عجلة من أمري. وبعدما تناولت وجبة متعدِّدة الأطباق في أحد المطاعم، ارتديت معطفي الواقي من المطر وخرجت في نزهة على الأقدام. كانت تمطر بغزارة، لكن المرء بعد أن يقضي شهرًا في اسكتلندا لا يهتم كثيرًا بتقلُّبات الطقس في إنجلترا، فضلًا عن أني كنت أرغب في تنشُّق بعض الهواء النقي. وبينما كنت أسير بصعوبة على الشاطئ المظلم والرياح تضرب رأسي، تعثرت في جسد شخص جاثم يحاول الاحتماء من العاصفة تحت جدار أحد المنتجعات.
توقعت أن يشتمني، لكنه بدا بائسًا إلى درجة جعلته لا يكترث لأي شيء.
قلت له: «معذرة، لم أرَك.»
هبَّ على قدمَيه ما إن سمع صوتي، وصاح قائلًا: «أهذا أنت؟ يا صديقي؟»
هتفتُ متعجِّبًا: «ماكواي!»
قال: «يا ألله! لم أسعد قطُّ لرؤية إنسان في حياتي مثلما سعدت لرؤيتك.»
وكاد يخلع يدي وهو يصافحني.
قلت: «ماذا تفعل هنا بحق السماء! إنك مبلَّل حتى النخاع!»
كان يرتدي قميصًا وبنطالًا خفيفًا، وسترة رياضية.
ردَّ قائلًا: «أجل، لم أتوقَّع هطول الأمطار على الإطلاق، كان الطقس صحوًا في الصباح.»
بدأت أشك في أنه قد أجهد نفسه حتى أصيب بحُمَّى دماغية.
سألته: «لمَ لا تعود إلى بيتك؟»
ردَّ قائلًا: «لا أستطيع، لا أعرف أين أقيم، لقد نسيت العنوان.»
ثم استطرد: «أتوسَّل إليك، خذني معك إلى أي مكان وابتع لي أي طعام آكله، إني أتضوَّر جوعًا.»
سألته ونحن في طريقنا إلى الفندق: «أليس معك نقود؟»
أجابني: «ولا بنس واحد. وصلنا هنا، أنا وزوجتي، على متن القطار القادم من يورك في الساعة الحادية عشرة تقريبًا. تركنا أمتعتنا في المحطة ثم بدأنا نبحث عن شقة. وما إن استقررنا بواحدة، غيرت ملابسي وخرجت في نزهة على الأقدام بعدما أخبرت مود أنني سأرجع على موعد الغداء. لكني تصرفت بحماقة، ولم أدوِّن العنوان ولم ألحَظ الطريق الذي سرت فيه.»
ثم تابع قائلًا: «الوضع في غاية السوء، لا أدري كيف سأتمكَّن من العثور عليها. كنت آمل أن تقرِّر الذهاب إلى المنتجع في المساء؛ لذا مكثت عند البوابة منذ الساعة السادسة، لكني لم أملك ثلاثة بنسات لدفع رسم الدخول.»
سألته: «هل تذكر أي شيء عن الشارع أو عن شكل المنزل الذي استأجرته؟»
أجاب بقوله: «لا أذكر شيئًا البتَّة. لم أهتم بالتفاصيل وتركت جميع الترتيبات لمود.»
سألته مجددًا: «هل جرَّبتَ الذهاب إلى أيٍّ من النُّزُل في المدينة؟»
رد بمرارة: «جربت! لقد قضيت ما بعد الظهيرة بأكملها أطرق الأبواب سائلًا هل السيدة ماكواي تعيش هنا، والجميع أغلق الباب في وجهي وأغلبهم لم يردوا حتى على سؤالي. لجأت إلى شرطي، ظانًّا أنه قد يقترح عليَّ حلًّا، لكن الأحمق انفجر في الضحك فأثار غضبي إلى حدٍّ دفعني إلى لكمه في وجهه، واضطررت إلى الهرب سريعًا. أظن أنهم يبحثون عني الآن.»
ثم تابع بحزن: «ذهبت إلى مطعم، وحاولت إقناعهم بأن يثقوا بي ويعطوني شريحة من اللحم. لكن صاحبة المطعم قالت إنها سمعت تلك الحكاية من قبل، وطردتني على مرأى ومسمع من باقي روَّاد المطعم. أعتقد أني كنت سأُلقي بنفسي في البحر لو لم ألقَك صدفة.»
اصطحبته معي، وبعد أن بدَّل ملابسه وتناول طعام العشاء، أضحى قادرًا على مناقشة المسألة بهدوء أكبر، واتضح أن مشكلته عويصة فعلًا. فقد أغلق هو وزوجته شقتهما، وأقارب زوجته مسافرون خارج البلاد. لا يوجد شخص يمكن أن يرسل خطابًا إليه طالبًا منه أن يعيد إرسال الخطاب إلى زوجته؛ إذ لا يوجد شخص مُعيَّن يُرجَّح أن تتواصل معه. وهكذا بدا من المستبعد أن يلتقيا ثانيةً في هذا العالم.
لم يبدُ لي أيضًا أنه يتطلَّع إلى هذا اللقاء بترقُّب مسرور، على الرغم من غرامه بها، وتَوْقه المؤكد إلى استعادتها.
فبينما كان يجلس على حافة السرير ويخلع جوربه مستغرقًا في أفكاره، كان يهمهم: «سوف تستغرب هذا الموقف. سوف تستغرب الأمر كله دون شك.»
في اليوم التالي، الذي كان يوم أربعاء، ذهبنا إلى محامٍ، وشرحنا له المسألة، فشرع في إرسال خطابات استعلام إلى جميع مالكي النُّزُل في مدينة سكاربو، ما أفضى إلى إعادة ماكواي إلى بيته ولمِّ شمله بزوجته في عصر يوم الخميس (مثلما يحدث لأبطال المسرحيات، التي تعرض على مسرح ديلفي، في الفصل الأخير).
وعندما لقيته مجددًا، سألته عن رد فعل زوجته.
وكان رده: «ما توقعته منها إلى حدٍّ كبير.»
لكنه لم يخبرني قطُّ بما كان يتوقعه.