الروح التي تصحب ويبلي
لم ألقَ هذه الروح شخصيًّا، لكني على معرفة وثيقة بويبلي؛ لذا سمعت قدرًا لا بأس به من الكلام عنها.
يبدو أن هذه الروح كرَّسَت نفسها لويبلي، وكان ويبلي مُولَعًا بها. عن نفسي، لست مهتمًّا بالأرواح، ولم تُبدِ أي روح اهتمامًا بي. لكن لديَّ أصدقاء ترعاهم أرواح، ولهذا أتعامل مع هذه المسألة بذهن متفتِّح. أما فيما يخص الروح التي تصحب ويبلي، فلا يسعني سوى التحدث عنها بكل احترام وتقدير. وأقر أنها روح مجتهدة وحيَّة الضمير، من النوع الذي يتمنَّاه ساكن أي منزل. لكن عيبها الوحيد في رأيي هو أنها لا تملك عقلًا.
سكنت الروح خزانة مزينة بنقوش خشبية ابتاعها ويبلي من شارع واردور، ظانًّا أنها مصنوعة من خشب البلوط القديم، لكن اتضح بعد ذلك أنها مصنوعة في ألمانيا من خشب الكستناء، وفي البداية كانت الروح مسالمة إلى حدٍّ كبير، فلم تنطق إلا إذا تحدث إليها أحد ولم تقُل سوى «نعم» أو «لا».
كان ويبلي يسلِّي نفسه في المساء بطرح أسئلة عليها، وحرص أن تكون الأسئلة بسيطة، إلى حدٍّ معقول، في موضوعها، على غرار «هل أنتِ هنا؟» (في بعض الأحيان كانت الروح ترد على هذا السؤال بنعم، وفي أحيانٍ أخرى كانت ترد بلا) أو «هل تسمعينني؟» أو «هل أنتِ سعيدة؟» … إلخ، وكانت الروح تجعل الخزانة تُصدر صريرًا ثلاث مرات للإجابة بنعم ومرَّتَين للإجابة بلا. وبين الحين والآخر كانت ترد بنعم ولا على السؤال ذاته، وكان ويبلي يعزو ذلك إلى دقتها المفرطة.
وإذا لم يوجه أحد أسئلة إلى الروح، كانت تحدث نفسها مردِّدة «نعم!» «لا!» «لا!» «نعم!» مرارًا وتكرارًا في حوار ذاتي عبثي ينمُّ عن الوحدة، ويثير الشفقة.
أغاظتني تلك الإجابة، لكن ويبلي أخبرني أن الروح غاضبة منا بسبب غبائنا (يا للعجب!). وشرح لنا أن الروح دائمًا ما تقول «لا» أولًا، ثم «نعم» عندما تكون غاضبة، ونظرًا إلى أن الروح تخصُّ ويبلي، ولأننا كنا في منزله، فقد كتمنا مشاعرنا في صدورنا وبدأنا من جديد.
عندئذٍ سأله ويبلي ساخرًا هل يتكرَّم ويشرح لنا معنى تلك الجملة.
أظن أن جوبستوك بدأ يتضايق. كنا محتشدين في مساحة ضيِّقة حول منضدة بائسة برجل واحدة طوال المساء، وكانت تلك العبارة هي النميمة الوحيدة التي استطعنا استنطاقها منها. فضلًا عن أن ويبلي أغلق محبس الغاز فخمدت نيران المدفأة. لذا كان جوبستوك معذورًا عندما رد بأنه يبذل جهدًا شاقًّا كي يحدد ما تقوله ولم يعُد لديه طاقة لفهم معناه.
ثم أضاف: «هذه الروح لا تعرف قواعد التهجئة. فضلًا عن أن طبعها بغيض ومتهجِّم. لو كانت تسكن منزلي لكنت استأجرت روحًا أخرى كي تضربها.»
ومع أن ويبلي كان رجلًا صغير الجحم ومن ألطَف مَن عرفت من الرجال، فإن إهانة الروح التي تصحبه أو المزاح بخصوصها كان يحوِّله إلى وحش كاسر، وخشيت أن يتفاقم الأمر إلى مشاجرة. ولحُسن الحظ، تمكَّنتُ من إقناع ويبلي بالرجوع إلى نظرية «يخشى أعداء هيستر» قبل أن يرتكب ما هو أسوأ من التفوُّه ببضعة تعليقات عن الحماقة التي أعيت مَن يداويها وعن تفاهة العقول التي تستخف بالمقدسات.
كان ويبلي قد سأل الروح عما إذا كان لديها أي معلومات حول عم زوجته، الذي لم يعرف عنه شيئًا منذ شهور، ويبدو أن هذه العبارة كانت محاولة منها لذكر عنوان.
بعد ذلك، ذاعت شهرة الروح، فصار ويبلي قادرًا على الاستعانة بمساعدين أنسَب يرحِّبون بالمشاركة، واستغنى عن خدماتنا أنا وجوبسوك. بَيْد أن ذلك لم يحزَّ في نفسَينا.
ومع هذا التحسُّن في الأوضاع، استجمعت الروح شجاعتها وانطلقت تُثرثر بلا انقطاع أمام الجميع. لكن صحبتها لم تبعث على البهجة، فحديثها كان يقتصر في الأغلب على التنبؤات والتحذيرات التي تُنذر بالشر. فكان ويبلي يمر بمنزلي مرَّة كل أسبوعَين تقريبًا دون موعد، كي يخبرني أن أحترس من الرجل الذي يعيش في شارع يبدأ اسمه بالحرف سي، أو كي يبلغني أنني إذا ذهبت إلى المدينة الساحلية حيث توجد ثلاث كنائس فسألقى شخصًا سوف يوقع بي ضررًا لا سبيل إلى إصلاحه، وشدَّد على أني إذا لم أهرع فورًا بحثًا عن تلك المدينة فسيكون ذلك تحديًا لمشيئة القدر.
ذكرتني هذه الروح المولعة بحشر أنفها الشبحية في شئون الآخرين بصديقي بوبليتون. فلا شيء كان يسعدها أكثر من أن يلجأ إليها أحدٌ بحثًا عن مساعدة أو طلبًا لنصيحة، وكان ويبلي، الذي كان يأتمر بأمر الروح، يمشط نصف الأبرشية كي يعثر على أشخاص يجلبهم إليها.
كان يجلب إليها نساء متلهفات على إيجاد أدلة تساعدهن في محكمة الطلاق، وكانت الروح تأمرهن بالتوجُّه إلى المنزل الثالث من ناصية الشارع الخامس، بعد كنيسة أو حانة معيَّنة (لم تعطِ قطُّ عنوانًا واضحًا سهلًا)، ثم بقرْع جرس الطابق السفلي مرَّتين لا مرة واحدة. فكُنَّ يشكرنها بحرارة، وفي صباح اليوم التالي ينطلقن نحو الشارع الخامس بعد الكنيسة حتى يصلن إلى المنزل الثالث من ناصية الشارع ويقرعن جرس الطابق السفلي مرَّتين، وعندئذٍ كان يفتح الباب رجل يرتدي قميصًا دون سترة ويسألهن عما يُردن.
وعندما كُنَّ يعجزن عن إخباره بما يردنه، فهنَّ أنفسهن لا يعرفن ما يُرِدن، كان الرجل يسبُّهن ثم يصفق الباب في وجهوهن.
عندها كُنَّ يفكرن: ربما كانت الروح تقصد الشارع الخامس من الناحية الأخرى، أو المنزل الثالث من الزاوية المقابلة من الشارع، وكُنَّ يحاولن مجددًا، لكن لم تفضِ محاولاتهن إلى نتائج مستحبة.
في أحد أيام شهر يوليو، لقيت ويبلي يتسكع في شارع برنسيس بإدنبرة، ويبدو عليه البؤس.
هتفت به: «مرحبًا! ماذا تفعل هنا؟ كنت أظن أنك مشغول بقضية مجلس إدارة تلك المدرسة.»
أجابني: «أجل، من الضروري أن أكون في لندن حاليًّا، لكني، في واقع الأمر، أنتظر حدوث شيء ما هنا.»
قلت: «حقًّا! ما هو؟»
رد مترددًا، كما لو كان يفضل عدم التحدُّث بالأمر: «حسنًا، ما زلت لا أعرف على وجه التحديد.»
صحت: «هل يعقل أن تأتي إلى إدنبرة من لندن، ولا تعرف لماذا؟!»
قال بمزيد من التردُّد: «حسنًا، في الحقيقة، ماريا هي صاحبة تلك الفكرة؛ إذ رغبت في …»
قاطعته قائلًا: «ماريا! مَن ماريا؟»، ونظرت إليه متجهمًا بعض الشيء (فزوجته تدعى إيميلي جورجينا آن.)
قال مفسرًا: «اعذرني، لقد نسيت، فهي لم تكُن لتقول اسمها أمامك أبدًا، أليس كذلك؟ ماريا هي الروح.»
قلت: «حقًّا؟! هي إذَن مَن أرسلتك إلى هنا. ألم تخبرك بالسبب؟»
رد: «لا، هذا ما يقلقني. لم تقُل سوى «اذهب إلى إدنبرة سوف يحدث شيء».»
سألته: «إلى متى ستبقى هنا؟»
أجابني: «لا أعرف. لقد أمضيت أسبوعًا بالفعل، وجوبستوك يبعث إليَّ بخطابات غاضبة. لم أكُن لآتي إلى هنا لولا أن ماريا قالت إن الأمر عاجل جدًّا. وكررت هذا الكلام لثلاث ليالٍ متتالية.»
لم أدرِ ماذا أفعل معه. كان يأخذ الأمر بجدية شديدة لا تحتمل الجدال.
فكرت لبرهة ثم قلت له: «هل أنت واثق من أن ماريا هذه روح طيبة؟ على حدِّ علمي، توجد أنواع شتى من الأرواح في أيامنا هذه. هل أنت واثق من أنها ليست روح امرأة مجنونة تتلاعب بك؟»
قال: «لقد فكرت في هذا الاحتمال. بالطبع هو احتمال قائم. إذا لم يحدث شيء قريبًا فسيكون عليَّ النظر في هذا الاحتمال بالفعل.»
قلت له: «لو كنت مكانك، كنت سأسعى إلى تقصِّي بعض المعلومات عن شخصية هذه الروح قبل أن أصدق أيًّا مما ستقوله بعد ذلك»، ثم تركته.
لقيته بعد شهر تقريبًا أمام مجمع المحاكم.
قال لي: «اتضح أن ماريا كانت على حق، حدث شيء بالفعل في إدنبرة عندما كنت هناك. في ذاك الصباح الذي لقيتك فيه، توفي أحد أقدَم عملائي فجأةً في منزله بمدينة كوينزفيري، التي لا تبعد سوى بضعة أميال عن إدنبرة.»
قلت: «يسعدني سماع ذلك، أقصد فيما يخص ماريا. إذَن كان وجودك هناك في مصلحتك.»
قال: «في الحقيقة، ليس بالضبط، على الأقل من المنظور الدنيوي. فقد مات الرجل تاركًا ممتلكاته في وضع بالغ التعقيد، ما دفع ابنه البكر إلى السفر على الفور إلى لندن كي يستشيرني فيما يخص التركة، وعندما لم يجدني هناك، ذهب إلى محامٍ آخر. أُحبِطتُ كثيرًا عندما عدت إلى لندن وعلمت بالأمر.»
قلت متأففًا: «على أي حال هي ليست روحًا ذكية.»
وافقني قائلًا: «أجل، ربما تكون محقًّا في ذلك. لكن أترى؟ لقد حدث شيء بالفعل.»
بعد ذلك الحادث، تضاعف حبه لماريا أضعافًا مضاعفة، وفي الوقت نفسه أصبح ارتباطها به عبئًا على أصدقائه. صارت أكبر من أن تسعها المنضدة التي سكنتها قبلًا، وبعدما تخلصت من جميع الوسائط الجامدة التي كانت تعتمد عليها في التواصل، بدأت تحدِّثه مباشرةً. كانت تتبعه في كل مكان، مثل حمل ماري الصغير في أغنية الأطفال الشهيرة، بَيْد أنها كانت أكثر إزعاجًا من ذاك الحمل. وتفاقم الأمر حتى صارت تصحبه إلى غرفة النوم، وتنخرط معه في محادثات طويلة في منتصف الليل. وقد اعترضت زوجته على ذلك، بحُجة أن هذا لا يصح، ورغم ذلك لم يستطع أحد إبعادها عن الغرفة.
صارت ماريا تصحبه إلى النزهات الخلوية وحفلات الكريسماس. لم يسمعها أحد تتحدَّث إليه، لكنه الْتَزم دومًا بالرد عليها بصوت مسموع، وعندما كان ينهض فجأةً من كرسيه وينسلُّ بعيدًا كي يتحدث بجدية إلى ركن فارغ في الغرفة، كان يفسد الأجواء الاحتفالية.
في إحدى المرات قال لي معترفًا: «أتمنى حقًّا لو يُتاح لي بعض الوقت لنفسي. أعلم أنها حسنة النية، لكن الأمر صار يضغط على أعصابي. فضلًا عن أن الآخرين لا يحبونها. فهي تُصيبهم بالتوتر، يمكنني ملاحظة هذا.»
في إحدى الأمسيات، تسببت الروح في موقف محرج حقًّا في النادي. كان ويبلي يلعب الويست وكان شريكه في اللعب رائد جيش. وفي نهاية الدور، مال الرائد عبر الطاولة نحو ويبلي وسأله، في هدوء قاتل: «هل تسمح لي أن أسألك أيها السيد، هل يوجد سبب أرضي (وشدد على كلمة أرضي) جعلك ترمي بالورقة الرابحة الوحيدة لديك بعدما ألقيت أنا ما لديَّ من أوراق البستوني؟»
رد ويبلي بنبرة اعتذارية: «أنا … أنا آسف جدًّا أيها الرائد، لقد شعرت بإحساس غامض دفعني إلى إلقاء ورقة الملكة تلك.»
أضاف الرائد في إصرار: «أكانت تلك فكرتك وحدك، أم أُوحي إليك بها؟»، وكان قد سمع بالطبع عن ماريا.
اعترف ويبلي بأن هناك مَن أوحى إليه بلعب هذه الورقة. عندئذٍ نهض الرائد، وقال في سخط بالغ: «إذن، أرفض أن أكمل هذه اللعبة. يمكنني تحمل اللعب مع شريك أحمق، لكني لا أطيق أن تعترض طريقي روح لعينة …»
حينئذٍ صاح ويبلي منفعلًا: «لا يحق لك وصفها بذلك.»
رد الرائد ببرود: «أعتذر عن وصفها بالروح اللعينة، فلنقُل إنها روح مباركة، لكني أرفض أن ألعب الويست مع أي روح من أي نوع، ونصيحتي لك، إذا كنت تنوي الظهور كثيرًا بصحبة هذه السيدة، أن تعلِّمها أساسيات اللعبة أولًا.»
وما إن أنهى الرائد كلامه حتى ارتدى قبعته وغادر النادي، أما أنا فحضَّرت لويبلي كأسًا من البراندي القوي الممزوج بالماء، ثم أحضرت سيارة أجرة كي تصطحبه هو وماريا إلى منزله.
تخلَّص ويبلي من ماريا أخيرًا. وقد كلفه هذا نحو ثمانية آلاف جنيهًا، لكن عائلته قالت إنهم الفائزون في هذه الصفقة.
وإليكم ما حدث: استأجر كونت إسباني منزلًا مفروشًا على بُعد بضعة منازل من بيت ويبلي، وفي إحدى الأمسيات، تعرَّف على ويبلي وزاره في منزله وتبادل الحديث معه.
أخبره ويبلي عن ماريا، وبدا أن الكونت وقع في غرامها. قال إنه لو كان لديه روح مثلها تساعده وتنصحه، لكانت حياته قد تغيرت كليًّا.
كان الكونت هو أول رجل يُطري على الروح، وأحبه ويبلي لذلك. وبعد تلك الأمسية، صار الكونت ملازمًا لويبلي، وكان ثلاثتهم — ويبلي والكونت وماريا — يسهرون معًا ويتحدثون حتى وقت متأخر من الليل.
لم أعرف بالضبط تفاصيل ما جرى بينهم. فطالما كان ويبلي متكتمًا حيال تلك المسألة. ومن ثَم لا يمكنني الجزم هل كانت ماريا موجودة حقًّا، والكونت هو مَن تعمَّد تضليلها (فطالما كانت روحًا حمقاء تصدق أي شيء)، أم كانت مجرد هلوسة وليدة عقل ويبلي، والكونت هو مَن خدعه عَبْر ما يطلق الأطباء عليه «الإيحاءات التنويمية». لكني متيقِّن من شيء واحد، وهو أن ماريا أقنعت ويبلي أن الكونت قد اكتشف منجم ذهب سِرِّيًّا في بيرو. وقالت إن لديها جميع المعلومات حول هذا الاكتشاف، ونصحت ويبلي بأن يرجو الكونت أن يسمح له باستثمار بضعة آلاف لبدء هذا المشروع. فعلى ما يبدو، كانت ماريا تعرف الكونت منذ صباه، وشهدت بأنه أشرف رجل في أمريكا الجنوبية. وربما كان أشرف رجل هناك فعلًا.
اندهش الكونت عندما علم أن ويبلي يعرف كل شيء عن منجمه. وأخبره أنه يحتاج إلى ثمانية آلاف جنيه كي يبدأ أعمال الحفر، وأنه لم يذكر هذا الأمر لأحد لأنه رغب في الاحتفاظ بجميع أرباح المنجم لنفسه، وكان يخطِّط لجمع المبلغ عَبْر توفير بعض من المال الذي يُنفقه على أملاكه في البرتغال. رغم ذلك، قرَّر أن يسمح لويبلي بدفع المبلغ المطلوب، تلبيةً لرغبة ماريا. ودفع ويبلي، نقدًا، ومنذ ذلك الحين لم يرَ أحدٌ الكونت مرة أخرى.
فقد ويبلي إيمانه بماريا بسبب هذا الحادث، وأخيرًا تحدث معه طبيب حصيف، وهدده أن يودعه مستشفى الأمراض العقلية إذا اكتشف أنه يتواصل مع أي أرواح مجددًا. وقد نجح ذلك في إتمام شفائه.