الرجلُ الذي ضلَّ السبيل
لقيت جاك بوردج لأول مرة قبل عشر سنوات تقريبًا في مضمار لسباق الخيل في شمال البلاد.
كان جرس تجهيز الخيول قد قرع لتوِّه معلنًا عن قرب بداية السباق. وكنت أسير متمهلًا ويدي في جيبي، فلم أكُن مهتمًّا بالسباق قَدْر اهتمامي بملاحظة الحضور، عندما أمسك بذراعي صديق من المقامرين المحنكين وهمس في أذني بصوت أجش: «ضع قميصك على السيدة والر.»
قلت: «أضع ماذا؟»
كرَّر عبارته بنبرة أكثر جزمًا: «ضع قميصك على السيدة والر»، ثم واصلَ طريقه نحو حلبة الخيل واختفى بين الحشود.
ظللت أحدِّق مبهوتًا في الاتجاه الذي سار فيه، متسائلًا لمَ يجب عليَّ أن أضع قميصي على السيدة والر؟ حتى إن كان قميصي مقاسها، فماذا سأرتدي أنا؟
تصادف أنني مررت حينها أمام مدرج المشاهدين وعندما نظرت إلى أعلى رأيت عبارة «السيدة والر، ١٢ إلى واحد» مكتوبة بالطبشور على لوحة المراهنات. عندئذٍ أدركت أن السيدة والر هي فرس، وبعدما أمعنت التفكير أكثر، بدأت أفهم أن صديقي كان ينصحني أن أراهن على السيدة والر بكل ما لديَّ من مال.
قلت في سري: «شكرًا على النصيحة، سبق وأن راهنت على خيول قيل لي إن فوزها يقين لا يرقى إليه شك. وبفضل ما مُنيت به من خسائر، قررت أن المرة القادمة التي سأراهن فيها على حصان سوف أغمض عينيَّ واختاره عشوائيًّا عَبْر وضع دبوس في بطاقة الخيل المشاركة.»
بَيْد أن الرجل قد زرع الفكرة في ذهني، وظلَّت كلماته تتردَّد في أذني. بل صرت أسمع الطيور المارة في السماء تغرد «ضع قميصك على السيدة والر.»
حاججت نفسي كي أثنيها عن الفعل وذكَّرتُها بالمغامرات القليلة التي سبق أن خضتها في هذا الميدان. لكن الرغبة في وضع عشر شلنات على الأقل — بدلًا من قميصي — على السيدة والر ظلَّت تشتد كلما ازدادت مقاومتي لها. وشعرت أنْ لو فازت السيدة والر ولم أكُن قد راهنت عليها بأي مبلغ، فسوف أؤنِّب نفسي حتى آخر يوم في عمري.
كنت واقفًا عند الجانب الآخر من حلبة السباق. ولم يتبقَّ أمامي وقت للرجوع إلى مقاعد الجمهور. كانت الخيول تصطف بالفعل استعدادًا للبدء. وعلى بُعد بضع ياردات، وقف وكيل مراهنات يعمل لحسابه الخاص أسفل خيمة بيضاء، وكان يصيح بآخر أسعار الرهان بصوت جهير. كان رجلًا ضخمًا ذا ملامح ودودة ووجه أحمر صادق.
سألته: «بكم الرهان على السيدة والر؟»
أجابني: «أربعة عشر لواحد، وحظًّا سعيدًا لك.»
أعطيته عشرة شلنات، وكتب لي إيصالًا. فحشرته في جيب صديريتي وغادرت مسرعًا كي أشاهد السباق. ودهشتُ إيَّما دهشة عندما فازت «السيدة والر». اشتعل حماسي إثر هذا الإحساس الجديد الناتج عن الرهان على الحصان الفائز حتى نسيت كل شيء عما كسبته من مال، فلم أتذكَّر رهاني إلا بعد انقضاء ساعة.
عندئذٍ شرعت أفتِّش عن الرجل الواقف أسفل المظلة البيضاء. ذهبت إلى حيث ظننت أني تركته آخر مرة، لكني لم أجِد أي مظلة بيضاء.
واسيت نفسي بأني أستحق هذه الخسارة لأن سذاجتي دفعتني إلى الوثوق بوكيل مراهنات غير معروف، فاستدرت وطفقت عائدًا إلى مقعدي. عندئذٍ فوجئت بصوت يناديني: «هنا أيها السيد، أنا مَن تبحث عنه، جاك بوردج، ها أنا ذا»، فنظرت حولي فوجدته واقفًا عند مرفقي.
قال: «رأيتك تبحث في الأرجاء، ناديت عليك ولم تسمعني، كنت تبحث في الناحية الخطأ من الخيمة.»
سُررت عندما رأيت أن وجهه الصادق لم يكذِّب كلامه.
قلت: «يسعدني أنك وجدتني، كنت قد فقدت كل أمل في أن أراك مجددًا.» ثم أضفت بابتسامة: «أو أن أرى الجنيهات السبعة، مكسبي.»
صحَّح عبارتي قائلًا: «سبعة جنيهات وعشر شلنات. لقد نسيت إضافة قيمة الرهان.» ثم أعطاني المال وعاد إلى مكانه المعتاد.
في طريقي إلى المدينة صادفته مجددًا. كان حشد من الناس قد تجمع للفرجة على رجل متشرِّد يعنِّف امرأة يعلو البؤس ملامحها. اخترق جاك الحشود، واستوعب المشهد وفي اللحظة نفسها خلع معطفه وصاح بأعلى صوته: «تعالَ إليَّ أيها السيد المحترم، فلتتعارك مع ندٍّ لك على سبيل التغيير.»
كان المتشرد رجلًا متوحشًا ضخم الجثة، ولم يكن جاك أفضل مَن رأيت من الملاكمين. وهكذا أُصيب بكدمة في عينَيه وبجُرح بالغ أعلى شفتَيه فور بداية العراك. وعلى الرغم من ذلك، ومن كل ما تلقَّاه من ضربات لاحقة، ظلَّ صامدًا حتى تغلَّب على خصمه.
وفي النهاية، ساعد غريمه على النهوض وسمعته يهمس له برفق قائلًا: «ما فعلته لا يليق برجل مثلك، لا يصح أن تضرب امرأة هكذا. لقد أوسعتني ضربًا حتى كدتَ أن تقضي عليَّ. لا بد أنك نسيت نفسك يا صديقي.»
أثار الرجل اهتمامي. فانتظرته ثم سرت معه. حكى لي عن بيته في لندن، في حي مايل إيند، وعن أبيه وأمه المسنَّين، وأشقائه وشقيقاته الصغار، وتحدث عما ينوي فعله لهم عندما يدَّخر ما يكفي من المال. كانت ملامحه تشع لطفًا وحنانًا أثناء حديثه.
كثير ممَّن لقينا أثناء سيرنا كانوا يعرفونه، وجميعهم ابتسموا دون أن يدروا ما إن رأوا وجهه الأحمر المستدير. عند منعطف الشارع الرئيسي، مرَّت بنا فتاة كادحة ذات وجه شاحب وقالت وهي تواصل طريقها: «مساء الخير يا سيد بوردج.»
استدار جاك سريعًا وأوقفها ثم أمسك بكتفَيها، وسألها: «كيف حال أبيك؟»
أجابت الطفلة: «أخشى أنه صار عاطلًا عن العمل مجددًا يا سيد بوردج. جميع المصانع مغلقة.»
«وأمك؟»
«لم تتحسَّن صحتها.»
«ومَن يعتني بكم جميعًا؟»
أجابت الفتاة الصغيرة: «أخشى أن جيمي يعمل الآن كي يساعد على إعالتنا.»
أخرجَ جاك جنيهَين من جيب صديريته ودسَّهما في يد الفتاة.
وقال مقاطعًا ما تفوَّهَت به من عبارات شكر متلعثمة: «لا بأس يا صغيرتي، لا بأس. اكتبي إليَّ إذا تحسَّنَت الأوضاع. أنتِ تعرفين عنوان جاك بوردج.»
في إحدى الأمسيات، كنت أتمشى في شوارع المدينة، عندما مررت صدفةً بجوار النزل الذي يقيم به جاك. كانت نافذة غرفة الاستقبال مفتوحة، وتدفق عَبْرها صوته العميق المبهج إذ يصدح بأغنية شعبية قديمة تردَّد صداها عَبْر ضباب الليل مثل أنسام منعشة تبعث الطمأنينة في قلب المرء لما تتسم به من طابع إنساني. كان يجلس على رأس طاولة ويحيط به حشد من رفاقه المقربين. بقيت لبعض الوقت أراقب هذا المشهد، الذي جعل العالم يبدو مكانًا أقل كآبةً مما يُخيَّل إليَّ في بعض الأحيان.
عزمت، بعدما عدت إلى لندن، أن أزوره في مسكنه، ومن ثَم خرجت في إحدى الأمسيات باحثًا عن ذلك الشارع المتفرِّع من طريق مايل إند رود، حيث يقطن. وما إن انعطفت داخلًا الشارع حتى رأيته يقود عربة يجرُّها حصان، بدت في حالة جيدة، وبجواره جلست عجوز ضئيلة متغضنة حسنة الهندام، قال لي إنها أمه.
قالت العجوز وهي تستعد للنزول من العربة: «دائمًا ما أقول له إن عليه أن يجد فتاة جميلة كي تركب بجواره، فعجوز مثلي تفسد المنظر.»
رد جاك ضاحكًا وهو يقفز من العربة ويسلم لجام الحصان إلى شاب كان واقفًا ينتظر: «دعكِ من هذا الكلام يا أمي، الفتيات الصغار لا يقدرن على منافستك.» ثم الْتَفتَ إليَّ متابعًا حديثه: «لقد وعدت هذه السيدة العجوز بأن تركب عربة خاصة بها في يوم من الأيام، أليس كذلك يا أمي؟»
ردَّت المرأة المسنة وهي تصعد السلالم في خفة رغم وجود عرج بسيط في ساقها: «بلى، بلى. أنت ابن بارٌّ يا جاك.»
قاد الطريق نحو غرفة الاستقبال في المنزل، وما إن دلفها حتى تبدَّى السرور على وجوه كلِّ مَن فيها، واستقبلوه بجوقة من الترحاب المفعم بالبهجة. تبدَّد العالم القاسي بالخارج ما إن أغلق الباب الأمامي. بدا لي أنني دلفت إلى عالم الأديب تشارلز ديكينز. راقبت الرجل ذا الوجه الأحمر والعينَين الصغيرتَين المتألِّقتَين والصوت العميق القوي إذ يجوب الغرفة مثل جنِّية توزع الهدايا، جنية بدينة وضخمة الجثة. فمن جيوبه الواسعة أخرج تبغًا لأبيه العجوز؛ وعنقود عنب كبيرًا لطفل سقيم من أبناء الجيران كان يقطن معهم؛ وكتابًا من أعمال الروائي جورج ألفريد هينتي، الذي يعشق الصبيان كتاباته، لفتى صغير مزعج كان يدعوه ﺑ «عمي»؛ وزجاجة نبيذ برتغالي لامرأة شاحبة متقدمة في العمر ذات وجه منتفخ، عرفت بعد ذلك أنها زوجة أخيه المتوفى؛ والكثير من الحلوى لطفل صغير (لا أعرف ابن مَن) تكفي لإصابته بالتوعك لمدة أسبوع؛ ومجموعة من النوتات الموسيقية لصغرى شقيقاته.
وبينما يضم الفتاة ذات الوجه الخجول إلى صدره ويربت بيده الخشنة على شَعرها المموج الجميل قال: «سوف نجعل منها سيدة راقية، وسوف تتزوَّج فارسًا من فرسان السباق حين تكبر.»
بعد العشاء، أعدَّ لنا شرابًا لذيذًا من الويسكي الممزوج بالعصائر، وأصرَّ على أن تحتسي أمه العجوز الشراب معنا، وقد وافقت في النهاية بعد الكثير من الاعتراض والسعال، رغم ذلك لاحظت أنها احتست كوبها عن آخره. أما الأطفال، فقد أعدَّ لهم شرابًا عجيبًا من ابتكاره، كان يطلق عليه اسم «عصير الألوان»، مكوَّنًا بالأساس من عصير الليمون الساخن ونبيذ الزنجبيل والسكر والبرتقال وخل توت العليق. وقد حقَّق التأثير المطلوب.
ظللت معهم حتى وقت متأخر، مستمعًا إلى ما رواه من مخزونه الذي لا ينضب من الحكايات. وكان يضحك هو نفسه على أغلبها، ضحكات صاخبة مدوية كانت تتسبب في هز التحف الزجاجية الرخيصة على رف المدفأة؛ لكن بين الحين والآخر، بدا أن ذكرى ما تُعاوده وتكسو وجهه المرح بتعبير جدي مفاجئ، وتبث رجفة غريبة في صوته العميق.
أطلق الشراب ألسنة أهل البيت بعض الشيء، فشرعوا يثنون على جاك ويشيدون به إلى حدٍّ كاد يبعث على السأم لولا أنه قاطعهم بصرامة.
صاح أخيرًا بخشونة: «اصمتي يا أمي، إني أفعل ما أفعله كي أُرضي نفسي. وأحب أن أرى الناس من حولي مرتاحين. وإذا كانوا يعانون، فسوف يُصيبني ذلك بضيق يفوق ما يشعرون به.»
لم أرَه مجددًا إلا بعد عامَين. ففي إحدى أمسيات شهر أكتوبر، كنت أتجوَّل في حي إيست أند عندما رأيته خارجًا من كنيسة صغيرة في طريق بورديت. كان قد تبدل حقًّا حتى كدت لا أعرفه لولا أني سمعت مصادفةً امرأة تحيِّيه في طريقها قائلةً: «مساء الخير يا سيد بوردج».
كان شارب كث يتدلى على جانبَي فمه، ما أضفى على وجهه الأحمر مظهرًا مفرطًا من الوقار. وكان يرتدي بذلة سوداء لا تُناسبه، ويحمل في إحدى يدَيه مظلة، وفي الأخرى كتابًا.
لا أدري لمَ بدا لي أنحف وأقصر ممَّا أتذكَّر. أوحى إليَّ مظهره إجمالًا بأن ذاته الحقيقية، قد انتُزعت منه بطريقة أو بأخرى ولم يتبقَّ منه سوى قشرة خارجية منكمشة. بدا أن جوهره الإنساني الودود قد استُلب منه.
صِحتُ به مندهشًا: «جاك بوردج! أهذا أنت؟»
زاغت عيناه الصغيرتان ناظرتين في أرجاء الشارع، ثم رد: «لا يا سيدي. لست جاك بوردج الذي عرفته قبلًا، أحمد الله على ذلك.» (لم يعد يتحدث بنبراته الصاخبة المجلجلة، بل أضحى صوته آليًّا قاسيًا.)
سألته: «هل هجرت مهنتك السابقة؟»
أجابني: «أجل يا سيدي، لقد طويت تلك الصفحة من حياتي، كنت شابًّا آثِمًا وضيعًا، فليسامحني الله على ما فعلته. الحمد لله أنني تُبت في الوقت المناسب.»
وضعتُ ذراعي في ذراعه وقلت له: «تعالَ، لنشرب كأسًا وتحكي لي القصة كلها.»
سحب ذراعه بحزم لا يخلو من الذوق وقال: «أعلم أن نيتك حسنة، بَيْد أنني أقلعت عن احتساء الخمر.»
من الجلي أنه أراد التخلُّص مني، لكن أديبًا مثلي استشعر وجود قصة قد تنفعه في كتاباته ليس من السهل التخلُّص منه. سألته عن أهله وعما إذا كانوا يُقيمون معه حتى الآن.
رد قائلًا: «أجل، لا يزالون يقيمون معي في الوقت الحالي. بالطبع لن يبقوا معي إلى الأبد؛ من الصعب إطعام هذا العدد من الأفواه في زمننا هذا، فضلًا عن أن المرء قد يقع ضحية لاستغلال الآخرين لا لسبب سوى أنه دمث الخُلق.»
سألته: «وكيف تسير أمورك حاليًّا؟»
رد بابتسامة سمجة: «أحوالي جيدة، أشكرك على السؤال. الله يرزق عباده المتقين. لديَّ الآن متجر صغير في الشارع التجاري.»
تابعت حديثي مُلحًّا: «أين بالضبط؟ أود أن آتي لزيارتك.»
أعطاني العنوان على مضض، وقال إنه سيسعد كثيرًا إذا شرفته بزيارتي. وكان واضحًا أنه يكذب.
سألتها عن حال زوجة ابنهما، السيدة ذات الوجه المنتفخ.
سألتها مجددًا: «ماذا عن الفتاة الصغيرة، ذات الشعر المموَّج؟»
قالت العجوز: «أتقصد بيسي؟ لقد امتهنت الخدمة في البيوت، فجون لا يعتقد أن من مصلحة الشباب البقاء دون عمل.»
علَّقتُ قائلًا: «يبدو أن ابنك قد تغير كثيرًا، يا سيدة بوردج.»
وافقتني قائلة: «أجل يا سيدي. كلامك مضبوط. لقد كاد قلبي ينفطر أول الأمر؛ إذ اختلف كل شيء عما كان. لكني لا أرغب في رد الفتى عن الطريق القويم. إذا كان شقاؤنا في الحياة الدنيا سوف يجلب له النعيم في الآخرة، فلن نبدي أنا وأبوه أي امتعاض، أليس كذلك أيها العجوز؟»
وافقها «العجوز» في تأفُّف.
سألتها: «هل تحوَّل هكذا فجأة؟ كيف حدث الأمر؟»
وأضافت: «ومنذ ذلك الحين، لم يعُد كما كان. أقلع عن مراهنات الخيول وابتاع متجر الرهونات، رغم أنني لا أرى فرقًا بين هذا وذاك. قلبي يوجعني حقًّا عندما أسمعه يهين الفقراء ويستغلهم، ذلك ليس من طبعه. في البداية، لاحظت أنه كان يعارض هذا الأسلوب، لكنهم أقنعوه أن أولئك الناس هم مَن جلبوا الفقر لأنفسهم، وأن إرادة الله تعاقبهم على استهتارهم وإسرافهم في احتساء الخمر.
بعد ذلك جعلوه يوقِّع على تعهُّد بالامتناع عن احتساء الخمور. كان جاك معتادًا على الشرب، وأظن أن الإقلاع عن الخمر جعله عدائيًّا بعض الشيء، وبدا أنه قد فقد طبعه المرح المُفعَم بالحياة. وبالطبع أقلعتُ أنا وأبوه عن الجرعات القليلة التي اعتدنا احتساءها. ثم أخبروه بأن عليه أن يُقلع عن التدخين، فتلك عادة ستُودي به إلى جهنم أيضًا، وقد زاده ذلك تجهُّمًا. فضلًا عن أن أباه يفتقد تدخين التبغ، أليس كذلك؟»
رد العجوز في سخط بالِغ: «بلى، لا أكنُّ احترامًا كبيرًا لهؤلاء الأشخاص الذاهبين إلى الجنة، وأظن أنهم سيستمتعون أكثر إنْ آلَ مصيرهم إلى الجانب الآخر.»
قاطع حديثنا صوت جدل محتدم قادِمًا من المتجر. لقد عاد جاك وكان يهدِّد امرأة منفعلة باستدعاء الشرطة؛ إذ اتضح أنها أخطأت في حساب تاريخ دفع الفائدة، فجاءت متأخرة يومًا.
بعدما تخلَّص منها، دلف إلى غرفة الاستقبال حاملًا ساعة في يده.
ثم قال متطلعًا إلى الساعة: «من حسن حظي أنها تأخرت. تلك الساعة تساوي عشرة أضعاف المال الذي أقرضتُها إياه.»
أعاد أباه إلى المتجر، وأرسل أمه إلى المطبخ كي تعدَّ له الشاي، وجلسنا نتحدَّث معًا لبعض الوقت.
كان حديثه مزيجًا غريبًا من الثناء على الذات المكسو بقناع واهٍ من الحطِّ من قَدْر النفس، وتجلى شعوره بالرضا النابع من اقتناعه بأنه نال الخلاص وأن معظم الآخرين لم ينالوه؛ شق عليَّ مواصلة الاستماع إليه؛ فنهضت كي أغادر متذكرًا موعدًا لديَّ.
لم يحاول استبقائي، بَيْد أنني لاحظت أنه كان يتوق لإخباري بأمر ما. أخيرًا، أخرج صحيفة دينية من جيبه، وبينما يشير إلى أحد الأعمدة اندفع قائلًا: «ألا تود المشاركة في إقامة مملكة الرب يا سيدي؟»
ألقيت نظرة على الجزء الذي يُشير إليه. كان يعلن عن بعثة تبشيرية جديدة إلى الصين، وعلى رأس قائمة المتبرعين كان اسم «السيد جون بوردج، مائة جنيه.»
قلت مناولًا إياه الصحيفة: «يا له من تبرُّع سخي يا سيد بوردج.»
فرك يدَيه معًا وقال: «سوف يردُّه إليَّ الرب أضعافًا مضاعفةً.»
حينئذٍ استطردت: «في هذه الحالة، ألا يستحسن أن تحتفظ بإيصال بالمبلغ الذي دفعتَه مقدمًا؟»
وجَّهَت عيناه الصغيرتان نظرةً حادة إليَّ، لكنه لم يرد، فصافحتُه مودِّعًا ثم غادرت.