الرجل الذي لم يُؤمِن بالحظ
صعد إلى القطار من محطة إبسوتش حاملًا سبع صحف أسبوعية مختلفة تحت ذراعه. لاحظت أن جميعها تبيع لقرائها تأمينًا ضد الموت أو الإصابات الناجمة عن حوادث القطارات. رتَّب أمتعته على الرف الذي يعلو مقعده، وخلع قبعته ووضعها على الكرسي بجانبه، ثم مسح رأسه الأصلع بمنديل حريري أحمر، وشرع في كتابة اسمه وعنوانه على كل صحيفة من الصحف السبع. كنت أجلس في المقعد المقابل له وأقرأ مجلة «بانش» الساخرة، التي اعتدت أن آخذها معي أثناء السفر لتأثيرها المهدئ للأعصاب.
تمايل القطار أثناء مروره عَبْر نقاط التحويل في مدينة ماننجتري، وعندئذٍ انزلقت حدوة حصان، كانت موضوعة بعناية على الرف الذي يعلوه، عَبْر الشبكة التي تحمي الأمتعة وسقطت فوق رأسه مُحدِثة وقعًا موسيقيًّا.
لم يبدُ متفاجئًا أو غاضبًا، وبعدما أوقف نزيف الجرح بمنديله، انحنى كي يلتقط حدوة الحصان الساقطة، ونظر إليها نظرة لوم، ثم ألقاها برفق من نافذة القطار.
سألته: «هل آلمتك؟»
كان سؤالًا غبيًّا. وقد أدركت ذلك ما إنْ تفوَّهتُ به. لا بد أن وزن تلك الحدوة يفوق كيلوجرامًا؛ إذ كانت أكبر وأثقل من المعتاد. فضلًا عن أن النتوء الناتج عن ارتطامها برأسه كان يزداد تورُّمًا أمام ناظري. بدا جليًّا أنه يتألم، ومَن لا يلاحظ ذلك ليس سوى أحمق. توقَّعتُ أن يردَّ عليَّ بحِدة. لو كنت مكانه لفعلت ذلك. لكن يبدو أنه رأى سؤالي تعبيرًا طبيعيًّا وودودًا عن التعاطف.
أجابني: «نعم، آلمتني قليلًا.»
سألته: «ماذا كنت تفعل بها؟» فمن الغريب أن يسافر المرء مصطحبًا معه حدوة حصان.
رد قائلًا: «كانت مُلقاة على الطريق أمام المحطة. أخذتها كي تجلب لي الحظ الحسن.»
أعاد طيَّ منديله كي يضع جانبه الأبرد على الورم برأسه، في حين غمغمت أنا بشيء ما عن غموض العناية الإلهية، معبرًا عن تعاطفي.
وأردف: «أجل. طالما لعب الحظ دورًا في حياتي، لكنه لم يكن أبدًا حظًّا حسنًا.»
ثم استطرد قائلًا: «وُلدت يوم أربعاء، وهو كما تعرف اليوم الأسعد حظًّا بين أيام الأسبوع. تُوفي أبي وصارت أمي أرملة، لكن جميع أقاربي عزفوا عن مساعدتي، زاعمين أن حظي الوفير يغنيني عن الحاجة إلى العون بما أنني ولدت يوم أربعاء؛ ومن ثَم عندما تُوفي عمي ترك ثروته كلها لأخي سام، تعويضًا بسيطًا له على كونه وُلد يوم جمعة. لم يقدِّم لي أحد سوى نصائح حول الواجبات والمسئوليات التي ستقع على عاتقي ما إن أحوز الثراء، وناشدوني ألا أقصِّر في حق مَن يجب عليَّ رعايتهم حين أصير رجلًا ثريًّا.»
توقَّف لبُرهة عن الحديث كي يطوي الصحف التأمينية العديدة التي يحملها ويضعها في الجيب الداخلي لمعطفه.
ثم تابع قائلًا: «يُقال أيضًا إن القطط السوداء تجلب الحظ الحسن. وقد تبعني قط لم أرَ أشد سوادًا منه إلى مسكني بشارع بولسوفر في أول ليلة قضيتها به.»
توقف عن الحديث، فسألته: «هل جلب لك الحظ؟»
شردت عيناه ثم أجابني: «لا أعرف تحديدًا، تلك الأمور نسبية. انفصلتُ عن خطيبتي وقتها، ربما لم تتوافق طباعنا منذ البداية، يظل هذا الاحتمال قائمًا. لكني وددت لو أُتيحت لي الفرصة لإنجاح علاقتي معها.»
شخصَ بصره عَبْر النافذة، ولوهلة لم أرغب في التطفُّل على ذكريات بدا واضحًا أنها أليمة.
بَيْد أنني سألته أخيرًا: «ماذا حدث آنذاك؟»
أفاق من تأمُّلاته ثم قال: «حادِثٌ تافِه. كانت مضطرة إلى قضاء بعض الوقت خارج لندن، فأعطتني طائر الكناري الذي تُربيه كي أعتني به أثناء غيابها.»
اندفعت قائلًا: «لكن ما فعله القط ليس خطأك.»
وافقني قائلًا: «لا، على الأرجح. لكنه أشاع برودًا في علاقتنا، سرعان ما استغله الآخرون لمصلحتهم.»
ثم أضاف، محدِّثًا نفسه على الأرجح: «وقد عرضت عليها أن تأخذ القط كذلك.»
جلس يدخِّن في صمت، وشعرت أن أي عبارات مواساة يتفوَّه بها غريب مثلي سيكون أثرها واهيًا.
نفض رماد غليونه فوق إطار النافذة وأضاف: «الأحصنة المُرقَّطة تجلب الحظ أيضًا. وقد امتلكتُ حصانًا مُرقَّطًا من قبل.»
سألته: «ماذا فعل بك؟»
رد ببساطة: «فقدت بسببه أفضل وظيفة حصلت عليها. تحمَّلَني صاحب العمل لفترة أطول مما توقَّعتُ، لكن من الصعب الإبقاء على موظف في حالة سُكر دائمة. فسوف يُسيء ذلك إلى سُمعة الشركة.»
وافقته قائلًا: «بالتأكيد».
تابع حديثه: «صدِّقني، لم أكُن قطُّ من مُحبِّي الخمور. بعض الرجال لا تفرق معهم هذه الأمور، لكن في حالتي كنت أشعر بالاضطراب ما إن أرتشف الكأس الأول. لم أعتد قطُّ تأثير الخمر.»
سألته مجددًا: «لكن لمَ اكتسبتَ تلك العادة؟ فالحصان لم يدفعك إلى شرب الخمر، أليس كذلك؟»
شرح لي الأمر، بينما كان يدلك برفقٍ النتوء في رأسه، الذي صار الآن في حجم بيضة. قال: «حسنًا، إليك ما حدث: قبل أن أمتلك هذا الحصان، كان يخصُّ تاجر نبيذ ومشروبات روحية، وكان هذا التاجر معتادًا على زيارة كل حانة تقريبًا في الطريق حسب مقتضيات عمله، والنتيجة أن ذلك الحصان الصغير لم يستطع تجاوز أي حانة يمرُّ عليها وأضحى إجباره على ذلك مهمة صعبة، بالنسبة لي على الأقل. كان يلمح الحانة على بُعد أربعمائة متر ويتجه مباشرةً نحو الباب. في أول الأمر، كنت أحاول جاهدًا دفعه إلى التحرُّك بعيدًا عن الحانة، لكن تلك العملية كانت تستغرق من خمس إلى عشر دقائق في المرة، وكان حشد من الناس يتجمَّع حولنا كي يراهنوا مَن منا سينتصر على الآخر. أظن أنني كنت سأواصل كفاحي معه لولا أنه في أحد الأيام وقف شاب من أنصار حركة الاعتدال يُلقي خطبة أمام الحشد في الجهة المقابلة من الشارع. وصفني فيها ﺑ «الحاج» وأسمى الحصان الصغير «بوليون» أو اسمًا من هذا القبيل، وظلَّ يصيح بأن عليَّ أن أصارعه كي أحوز قصرًا في الجنة. بعد ذلك، صار الناس يشيرون إلينا بعبارة «بولي والحاج يتعاركان في سبيل القصر السماوي.» أغضبني ذلك حقًّا، وعندما توقف الحصان في الحانة التالية ترجَّلتُ ودخلت الحانة حيث طلبت كأسَين من الويسكي.
وهكذا بدأتُ في معاقرة الخمر. قضيت سنوات حتى استطعت التخلُّص من هذه العادة. لكن حياتي ظلَّت تسير على المنوال نفسه. فبعدما حصلتُ على وظيفة جديدة، لم أكَد أقضي أسبوعَين بها حتى أعطاني صاحب العمل إوزة تزن ثمانية كيلوجرامات هدية في عيد الميلاد.»
علَّقتُ قائلًا: «لا تقُل لي إن الإوزة آذَتْك. لا شيء يجلب الحظ الحسن مثل إوزة.»
رد قائلًا: «هذا ما قاله لي باقي الموظفين. قالوا إن المدير العجوز لم يُعطِ أحدًا شيئًا قطُّ طوال حياته، وقالوا إنه «مُعجَب بي» وأنني «وغد محظوظ!»»
ثم أطلق تنهيدة عميقة، فاستشعرت أن ثمَّة قصة وراء هذا الحدث. فسألته: «ماذا فعلت بها؟»
أجابني: «تلك كانت المشكلة، لم أدرِ ماذا أفعل بها. لقد أعطاني إياها في الساعة العاشرة مساءً ليلة عيد الميلاد وأنا على وشك مغادرة المكتب. قال لي وأنا أساعده على ارتداء معطفه الضخم: «الإخوة تيدلنج أرسلوا إليَّ إوزة يا بيجليز، ذلك كرم بالِغ منهم، لكني لا أريدها، يمكنك أن تأخذها!» شكرتُه بالطبع وأبديتُ امتناني. فتمنَّى لي عيد ميلاد سعيدًا ثم خرج. لففتُ الطائر بورق بُنِّي وحملته تحت ذراعي. كانت حالته جيدة لكنه كان ثقيلًا. فكرت أن أكافئ نفسي بكوبٍ من البيرة، احتفالًا بعيد الميلاد. ومن ثَم دلفت إلى حانة صغيرة عند ناصية الشارع ووضعت الإوزة على الطاولة.
علَّق صاحب الحانة: «يا له من طائر كبير. سوف تحظى بوجبة دسمة غدًا.»
دفعتني كلماته إلى التفكير وأدركتُ للمرة الأولى أني لا أريد تلك الإوزة. إنها لن تنفعني بشيء على الإطلاق. كنت سأقضي العطلة مع أهل خطيبتي الشابة في مقاطعة كنت.»
قاطعته سائلًا: «أكانت تلك هي الفتاة صاحبة الكناري؟»
رد: «لا، ارتبطت بهذه الفتاة قبل الأخرى. وكانت تلك الإوزة هي سبب فشل علاقتي بها. خلاصة القول، كان أهلها من كبار المزارعين في المقاطعة وبدا سخيفًا أن أجلب معي إوزة عند زيارتهم، ولم أعرف أحدًا في لندن يمكنني إعطاؤه إياها؛ لذا عندما اقترب صاحب الحانة من الطاولة مجددًا سألته إذا كان يودُّ شراء الإوزة. قلت له إنني سأبيعها له بثمن زهيد.
لكن رده كان: «لا أرغب بها، لديَّ ثلاث في البيت بالفعل. ربما يرغب أحد هؤلاء السادة في شرائها.»
ثم حوَّل بصره إلى رجلَين جالسَين يحتسيان الجن. لم يبدُوَا لي قادرَين على دفع ثمن الدجاجة التي كانا يأكلان منها. قال أشدهما وضاعة إنه يودُّ إلقاء نظرة عليها؛ لذا فككت اللفافة التي أحطتُها بها. شرع يفحص الطائر بخشونة بالغة، واستجوبني حول كيفية حصولي عليه، وفي خضم ذلك سكب نصف زجاجة من مشروب الجن المخلوط بالماء فوق الإوزة. وبعد ذلك عرض عليَّ ٣٠ بنسًا ثمنًا لها. شعرت بسخط بالِغ حتى إنني حملت الورق البُنِّي والخيط في يدٍ والإوزة في اليد الأخرى وغادرتُ الحانة على الفور دون أن أنطق بكلمة.
ظللتُ أحملها بهذه الطريقة لمسافة لا بأس بها؛ إذ كنت منفعلًا ولم أهتم بكيفية حملها؛ لكن ما إن هدأتُ حتى بدأت أفكِّر في مدى سخافة منظري. كان من الجلي أن صبيًّا أو اثنَين لاحظا الأمر نفسه. لذا توقفتُ أسفل أحد أعمدة الإنارة كي أحاول ربطها مجددًا. كنت أحمل حقيبة ومظلة في الوقت نفسه، وهكذا ما إن بدأتُ حتى سقطت الإوزة مني في قناة الصرف، وهو أمر كان عليَّ توقُّعه لأني كنت أحاول الإمساك بأربعة أغراض منفصلة وثلاث ياردات من الخيط بيديَّ الاثنتَين فقط. الْتَقطتُها حاملًا معها قدرًا لا بأس به من الطين استقرَّ معظمه على يديَّ وملابسي وتلطَّخ الورق البُنِّي بما تبقى منه؛ بعد ذلك، بدأت السماء تمطر.
حملت كل شيء بين ذراعَيَّ وتوجَّهتُ نحو أقرب حانة، حيث فكرت أن بوسعي طلب قطعة إضافية من الخيط كي أتمكَّن من ربط الإوزة كما ينبغي.
كانت الحانة مزدحمة، وشققت طريقي حتى بلغت طاولة تقديم المشروبات وألقيت الإوزة أمامي. قطع الرجال بجواري حديثهم ونظروا إلى الطائر.
علَّق شاب كان واقفًا بجانبي بقوله: «حسنًا، لقد قتلتها برميتك تلك». أقرُّ بأنني بدوتُ منفعلًا بعض الشيء.
كنت قد نويت أن أحاول بيعها مجددًا هنا، لكن بدا واضحًا أن روَّاد تلك الحانة ليسوا من النوع الذي قد يبتاع إوزًا. تجرَّعت كوبًا من البيرة؛ لأني كنت أشعر بالحَر والإرهاق، ونظَّفتُ الطائر من الطين قدر استطاعتي، ولففته من جديد في الورق البُنِّي، ثم خرجت من الحانة.
وبينما كنتُ أعبُر الطريق، خطرَت لي فكرة رائعة. فكَّرتُ أن أطرح الإوزة جائزة في يانصيب. وعلى الفور شرعت في البحث عن حانة حيث يمكنني العثور على أناس يرغبون في المشاركة في مسابقة من هذا النوع. كلفني البحث احتساء ثلاثة أو أربعة كئوس من الويسكي، فلم أكُن أرغب في احتساء المزيد من البيرة لأنها تصيبني بالتوعك، وأخيرًا عثرت على الجمهور الذي أبحث عنه؛ مجموعة من الرجال العاديين في حانة صغيرة متواضعة بالقرب من شارع جوزويل رود.
شرحت غرضي لصاحب الحانة. لم يعترض لكنه اقترح أن أبتاع مشروبات لكل مَن في الحانة بعد أن أحقق غرضي. قلت له إن ذلك سيكون من دواعي سروري ثم عرضت عليه الإوزة.
قال الرجل، وكان من مقاطعة ديفونشاير: «تبدو مريضة بعض الشيء.»
قلت مفسِّرًا: «لا ليست مريضة. لقد وقعت مني ليس إلا. تلك القذارة يمكن إزالتها بالماء.»
أضاف: «رائحتها غريبة بعض الشيء أيضًا.»
قلت: «تلك رائحة الطين. وما أدراك ما طين لندن. فضلًا عن أن أحد الرجال بالحانة سكب بعض الجن فوقها. لكنَّ أحدًا لن يلاحظ ذلك بعدما تُطهى.»
علق الرجل: «حسنًا، لا أظن أنني سأشارك في هذا اليانصيب، لكن في وسع أيٍّ من السادة الحاضرين المشاركة به إذا رغبوا في ذلك.»
لم يُبدِ أحد حماسًا للمشاركة. بدأت اليانصيب بعرض تذاكر بقيمة ستة بنسات، وأخذت تذكرة لنفسي. أخد النادل تذكرة مجانية مقابل الإشراف على المسابقة، ونجح في حث خمسة رجال آخرين على المشاركة معنا، رغمًا عن إرادتهم إلى حدٍّ كبير. وفي آخر الأمر فُزتُ أنا بالإوزة ودفعت خمسة بنسات ثمنًا للمشروبات. وبينما كنت أغادر الحانة، استيقظ فجأةً رجل وَقور كان يشخِّر في أحد الأركان، وعرض عليَّ شراء الإوزة مقابل سبعة بنسات ونصف؛ ولم أفهم قطُّ لمَ عرض سبعة بنسات ونصف تحديدًا. لو أخذها كان سيخلِّصني منها ولن تقع عيناي عليها مجددًا، وربما كانت حياتي كلها ستتخذ مسارًا مختلفًا. لكن القدر طالما عاندني. رددتُ عليه بعجرفة لا داعي إليها قائلًا إنني لست مؤسسة خيرية تقدِّم عشاءً للمحتاجين في عيد الميلاد، وخرجت من الحانة.
تأخَّر الوقت، ولا يزال عليَّ مشي مسافة كبيرة حتى أصل إلى مسكني. بدأت أتمنَّى لو أنني لم أرَ ذلك الطائر أبدًا. قدَّرتُ وقتها أن وزنه يبلغ ١٦ كيلوجرامًا تقريبًا.
خطر بذهني أن أبيعها لفرارجي. أخذتُ أبحث عن متجر حتى وجدت واحدًا في شارع ميدلتون. لم أرَ زبونًا واحدًا بالقُرب منه، بَيْد أن صاحب المتجر كان يصيح كما لو كان يدير جميع المحلات التجارية في شارع كليركنويل. أخرجت الإوزة من اللفافة ووضعتها على الرف أمامه.
سألني: «ما هذا؟»
قلت: «إوزة. سوف أبيعها لك بثمن زهيد.»
كان ردُّه أن أمسك بها من عنقها وألقاها في وجهي. حاولت تفاديها لكنها ارتطمت بجانب رأسي. إذا لم يضربك أحد قبلًا بإوزة على رأسك، فلن تستطيع تخيُّل مدى الألم الناجم عن ذلك. الْتقطتُها ورميتُها عليه لأردَّ له الضربة، وحينئذٍ دلف شرطي إلى المتجر صائحًا بالعبارة المعتادة: «ماذا يحدث هنا؟»
وضَّحتُ له حقيقة ما حدث. أما الفرارجي فقد خطا نحو حافة الرصيف والْتفتَ، موجِّهًا شكواه إلى الكون كله على ما يبدو: «انظر إلى متجري. لقد تجاوزت الساعة الثانية عشرة بعشرين دقيقة، ولديَّ سبع دستات من الإوز معلَّقة هناك، وأنا على استعداد لتوزيعها دون مقابل، لكن هذا الأحمق يعرض عليَّ شراء إوزة أخرى.»
أدركت حماقة فكرتي، فامتثلت إلى نصيحة الشرطي وغادرت المتجر بهدوء حاملًا الإوزة معي.
عندئذٍ قلت لنفسي: «سوف أهديها لأحدهم. سوف أنتقي شخصًا فقيرًا محتاجًا وأعطيه هذا الطائر اللعين هدية.» ومررتُ على عدد كبير من الناس، لكن لم يبدُ لي أن أحدًا منهم يستحق هذه الهدية. بل بدا كلُّ مَن لقيتهم غير جديرين بالإوزة ربما بسبب الوقت الذي كنت أسير فيه أو الحي الذي كنت به. عرضتها على رجل في شارع جد، ظننته جائعًا. لكن اتضح أنه بلطجي ثمِل، حاولت إفهامه مقصدي دون جدوى، وظلَّ يتبعني لآخر الشارع وهو يشتمني بأعلى صوته، حتى انعطف دون أن يدري نحو شارع تافيستوك بلايس، حيث واصل الصياح على رجل آخر ظانًّا أنه أنا. وفي شارع إيستون رود، أوقفت طفلة تُعاني من سوء تغذية واضح ورجوتها أن تأخذها. لكنها ردَّت قائلة: «لا لست أنا!» ثم ركضت هاربة. ثم سمعتها تصيح خلفي بصوت حادٍّ: «مَن سرق الإوزة؟»
ألقيتُها في جزء مظلم من شارع سيمور. فالتقطها رجل وأرجعها إليَّ. كنت عاجزًا عن الجدال أو طرح المزيد من التفسيرات. أعطيتُه بنسَين، وجررت قدمي حاملًا إياها. كانت الحانات تتهيَّأ للإغلاق، فدلفت إلى واحدة لاحتساء مشروب أخير. في واقع الأمر، كنت قد احتسيت ما يكفي من الخمر، لا سيما أنني لا أشرب سوى كوب من البيرة بين الحين والآخر. لكنني كنت مغتمًّا، وظننت أنه ربما يخفِّف عني تناوُل كأس. تناولت كوبًا من الجن على ما أعتقد، وهو شراب أمقته.
عزمت على رميها في حديقة ميدان أوكلي، بَيْد أن شرطيًّا كان يراقبني وتبعني مرَّتين حول سور الحديقة. وفي شارع جولدينج رود، حاولت أن ألقيها في أي مكان، لكني عجزت عن ذلك للسبب نفسه. بدا أن شرطة لندن بأسرها لم يكن لديها شاغل الليلة سوى منعي من التخلُّص من تلك الإوزة.
ولأنهم بدوا مشغولين إلى هذا الحد بها، تصوَّرتُ أنهم قد يرغبون في أخذها. وعليه ذهبت إلى أحدهم في شارع كامدين، دعوته «بوبي» وسألته إذا كان يرغب في إوزة.
رد بحدة: «ما أرغب به هو ألا تتحدَّث إليَّ بهذه الوقاحة.»
أخذ يكيل لي الإهانات، وبطبيعة الحال رددتُ عليه. لا أتذكر ما جرى بيننا على وجه التحديد، لكنه أفضى إلى إعلان عزمه إلقاء القبض عليَّ.
أفلتُّ منه وفررت ناحية شارع كينج. فأطلق صفارته وانطلق يركض ورائي. اعترض طريقي رجل خرج من مدخل أحد البيوت في شارع كوليدج وحاول إيقافي. عالجته بنطحة في معدته، وانعطفت نحو شارع كريسنت ثم عدتُ إلى شارع «كامدين رود» عَبر شارع بات.
وعندما بلغت الجسر فوق قناة ريجينت نظرت ورائي، ولم أرَ أحدًا. ألقيت الإوزة من فوق الحاجز، فسقطَتْ وتناثر الماء من حولها.
تنهَّدتُ في ارتياح ثم استدرت وعبَرتُ إلى شارع راندولف، وهناك أمسك بي شرطي. وبينما أتجادل معه جاء الشرطي الأحمق الذي تشاجرت معه أولًا وهو يلهث. أخبراني أن عليَّ تفسير ما حدث إلى المفتش العام، وكان هذا رأيي أيضًا.
سألني المفتش لمَ هربت عندما أراد الشرطي الأول اعتقالي. رددت بأني لم أُرِد أن أقضي عطلة عيد الميلاد في الزنزانة، وبدا واضحًا أنه لم يقتنع بهذا السبب الواهي. سألني عما ألقيته في القناة. قلت له إوزة. سألني لمَ ألقيتَ إوزة في القناة. أخبرته بأنني كنت قد ضِقتُ ذرعًا بذاك الطائر.
عندئذٍ جاء شاويش وأبلغنا أنهم نجحوا في استعادة اللفافة الملقاة في القناة. وعندما فتحوها فوق طاولة المفتش وجدوا بها رضيعًا ميتًا.
وضَّحتُ لهم أن تلك اللفافة لا تخصني وأن ذلك الرضيع ليس ابني، لكنهم لم يحاولوا حتى مداراة حقيقة أنهم لا يصدقونني.
قال المفتش إنه نظرًا إلى خطورة القضية فلن يسمح لي بالخروج مقابل كفالة، ولم يهمني ذلك بما أنني لا أعرف أحدًا في لندن كي يدفعها لي. أقنعتهم بإرسال برقية إلى خطيبتي كي أخبرها أن ظروفًا قاهرة اضطرتني إلى البقاء في المدينة، وقضيت يوم عيد ميلاد ويوم الصناديق في هدوء لم أكُن أتمنَّاه قطُّ.
في آخر المطاف، تبيَّن أن الأدلة ضدي لا تكفي لإدانتي، ومن ثَم وُجِّهَت لي تهمة مخفَّفة هي السُّكر وإثارة الشغب، وأُطلق سراحي لاحقًا. لكني فقدت وظيفتي وتركتني خطيبتي، وكرهت كل الإوز في العالم.»
اقترب القطار من شارع «ليفربول»، فجمع الرجل أمتعته، وتناول قبعته وحاول وضعها على رأسه. لكنه عجز عن ارتدائها بسبب التورُّم الناتج عن حدوة الحصان، فأعادها إلى جانبه بحزن.
ثم قال في هدوء: «حقًّا، لا أعتقد أنني ممَّن يؤمنون بالحظ.»