حكاية شاعر مغمور
أجبتها قائلًا: «هذا الزي لا يناسبك مطلقًا».
قالت: «يا لك من شخص بغيض، لن أطلب رأيك ثانية أبدًا.»
سارعت أضيف: «ولن يبدو لائقًا على أي أحد. بالطبع أنتِ تبدين أقل قبحًا فيه مقارنة بأي امرأة أخرى، لكنه لا يلائم ذوقك.»
صاح الشاعر المغمور: «هو يقصد أنه نظرًا إلى أن الزي ذاته أبعد ما يكون عن الجمال، فهو لا يناسبك، ولا يليق عليك. إذ إن التناقض بينك وبين أي شيء يقارب هذا المستوى من القبح أو الابتذال تناقض صارخ إلى حدٍّ يبعث على الاستياء.»
ردَّت المرأة الواسعة الخبرة: «هو لم يقُل ذلك، فضلًا عن أن الزي ليس قبيحًا. بل هو آخر صيحة من صيحات الموضة.»
تساءل الفيلسوف: «لماذا تُبدي النساء كل هذا الهوس بالموضة؟ هن لا يفكرن إلا في الملابس، ولا يتحدثن إلا عن الملابس، ولا يقرأن إلا عنها، ورغم ذلك لم يفهمن قطُّ وظيفة الملابس. إن الغرض من الملابس هو تحقيق الدفء في المقام الأول، ثم تجميل صورة مَن يرتديها وتحسين شكله بعد ذلك. ورغم ذلك، نادرًا ما تجد امرأة تراعي الألوان الأنسب للون بشرتها، أو التصميم الذي يُخفي عيوب جسدها أو يبرز محاسنه. بل إذا صار زيٌّ ما على الموضة، يصبح لزامًا عليها ارتداؤه. ولهذا السبب نرى فتيات شاحبات الوجوه يبدون مثل الأشباح لأنهن ارتدين درجات من الألوان تناسب الفتيات الحمراوات الخدَّين اللاتي يحلبن الأبقار في المزارع، أو نجد فتيات قصيرات القامة يتهادين في أزياء صُمِّمت لنساء يُناهز طولهن المترين. الأمر أشبه بأن ترى غرابًا يصرُّ على ارتداء ريش ببغاء الكوكوتو فوق رأسه أو أرنبًا يجري هنا وهناك وهو يجر خلفه ذيل طاووس.»
ردَّت الفتاة خريجة كلية جريتون محتدة: «هل تنكر أن الرجال لا يقلون حماقة عن النساء من هذه الناحية؟ فعندما شاعت موضة المعاطف القصيرة الفضفاضة، كان الرجال البدينون القصيرو القامة يرتدونها في كل مكان رغم أنها تجعلهم يبدون مثل قوالب زبدة تسير على قدمين. وفي شهر يوليو تتصببون عرقًا تحت السترات السوداء المشقوقة الذيل والقبعات الحريرية العالية التي ترتدونها لأن الموضة تقتضي ذلك، وتلعبون التنس مرتدين قمصان منشية بياقات عالية، وذلك أمر في غاية السخافة. وإذا حكمت الموضة أن تلعبوا الكريكت مرتدين أحذية طويلة الساق وخوذات مثل التي يلبسها الغواصون، فسوف تلعبون الكريكت مرتدين أحذية طويلة الساق وخوذات مثل التي يلبسها الغواصون، وتصِمون أي رجل عاقل لا يتبع تلك الموضة بأنه وغد سيئ الخُلق. إن المشكلة أسوأ لديكم مما لدى النساء؛ فمن المفترض أن الرجال ذوو فكر مستقل، وقادرون على التفكير دون التأثر بالآخرين، في حين أن المرأة الأنثوية التقليدية لا يفترض بها ذلك.»
قالت المرأة الواسعة الخبرة: «النساء الطويلات والرجال القصار لا تناسبهم أغلب الملابس. أتذكرون إيميلي المسكينة، كان طولها نحو ١٨٠ سنتيمترًا، لكنها كانت تبدو دائمًا أطول من المترين بعشرة سنتميترات، أيًّا كان ما ترتديه. فعندما صارت الموضة هي الفساتين ذات الخصر العالي، كانت تبدو فيها مثل طفل عملاق في عرض مسرحي إيمائي. وحينها ظننا أن الملابس المستوحاة من الأزياء اليونانية القديمة قد تحسِّن من مظهرها بعض الشيء، لكنها بدت مثل تمثال ملفوف بملاءة على نحو رديء، ومعروض في قصر الكريستال؛ وعندما أضحت الفساتين ذات الأكمام المنفوخة والأكتاف العالية هي الموضة، وقف تيدي الصغير خلفها في حفل على متن قارب وغنَّى «تحت شجرة الكستناء الكبيرة»، وهو ما عدَّته إيميلي إهانة شخصية لها وضربته على أذنه. قليل من الرجال رغبوا في الخروج معها، وأنا على يقين من أن أحد الأسباب التي دفعت جورج إلى التقدُّم للزواج منها هو توفير نفقات شراء سلم نقَّال؛ إذ إن باستطاعتها مناولته حذاءه الطويل الساق من الرف العلوي.»
قال الشاعر المغمور: «عن نفسي أرفض أن أرهق عقلي في التفكير بموضوع كهذا. فليقُل لي المجتمع ماذا أرتدي، وسوف أرتديه، دون جدال. إذا قال المجتمع: «عليك ارتداء قميص أزرق بياقة بيضاء»، فسوف أرتدي قميصًا أزرق بياقة بيضاء. وإذا قال «حان الوقت كي يرتدي الجميع قبعات عريضة الحواف»، فسوف أجلب لنفسي قبعة عريضة الحواف. فتلك المسألة لا تهمني كثيرًا كي أجادل فيها. إن مَن يرفض اتباع الموضة هو الرجل الغندور المتأنق، الذي يرغب في جذب الانتباه إليه عَبْر الظهور بمظهر مميز. فالروائي الذي لا يلاحظ أحدٌ روايته، يميِّز نفسه عَبْر ارتداء رابطة عنق صُمِّمت له خصوصًا، والكثير من الرسامين يُطيلون شعورهم بدلًا من تعلُّم كيفية الرسم؛ لأن ذلك هو الطريق الأسهل.»
علَّق الفيلسوف قائلًا: «الحقيقة هي أننا جميعًا خاضعون للصيحات الرائجة. وهي التي تحدِّد الدين الذي نعتنقه، والمبادئ الأخلاقية التي نتبعها، والمشاعر التي تراودنا، والأفكار التي تنتابنا. ففي أحد الأزمنة كانت سرقة الماشية فعلًا حسنًا ومقبولًا، وبعدما مرَّ بضع مئات من السنين، أضحت إقامة الشركات التجارية وإنماؤها نشاطًا مشروعًا وشريفًا. في إنجلترا وأمريكا، المسيحية هي الدين الرائج، أما في تركيا فتشيع الديانة المحمدية، وكما قال الشاعر: «ما يُعد جريمة في حي كلابم هو فضيلة في مدينة مارتابان». ففي اليابان، ترتدي النساء أردية تصل إلى ركبتهنَّ، لكن إظهار الذراعَين يتنافى مع قيم الاحتشام هناك. أما في أوروبا، فلا يصحُّ لامرأة طاهرة الفكر أن تُظهر ساقَيها. وفي الصين، تُبجَّل الحماة وتُحتقَر الزوجة، لكن في إنجلترا تعامل الزوجات باحترام وتُعَد الحَمَوات منبعًا تستقي منه الصحافة الهزلية الساخرة أفكارها. العصر الحجري، والعصر الحديدي، وعصر الإيمان، وعصر الكفر، والعصر الفلسفي، ألم تكُن صيحات عابرة من الموضة شاعت في وقت ما بالعالم؟ أينما كنا وحيثما ذهبنا، سوف نجد الصيحات الرائجة في كل مكان حولنا، وهي تقود مسارنا منذ أن نفتح أعيننا الصغيرة على الحياة. فاليوم يشيع الأدب العاطفي، وغدًا يصير الأدب الساخر المفعم بالأمل هو أحدث الصيحات الأدبية، ثم يليه الأدب النفسي، ثم الأدب الذي يركِّز على المرأة الجديدة، وهكذا. اللوحات القديمة صارت أضحوكة الفنانين العصريين في هذا الزمن، واللوحات التي رُسمت اليوم سوف يُنظر إليها غدًا بعين السخرية. في الوقت الحالي، من الرائج أن يكون المرء ديمقراطيًّا، وأن يدَّعي أن الطبقة العاملة هي منبع الحكمة والفضيلة ويوجِّه نقدًا مهينًا إلى الطبقات الوسطى. في أحد الأعوام، نزور الأحياء الفقيرة كي نتفرَّج على بؤس قاطنيها، وفي العام التالي نصبح جميعًا اشتراكيين. نحن نظن أننا نفكِّر، لكن في حقيقة الأمر نحن نردِّد كلمات لا نفهمها كي تضحك علينا الأقدار.»
رد الشاعر المغمور محتدًّا: «لا تكُن متشائمًا، لقد أضحى التشاؤم موضة قديمة. أنت تُطلِق على تلك التغيرات صيحات رائجة، لكني أطلق عليها خطوات على مسار التقدم. فكل مرحلة من مراحل الفكر تجسِّد تطورًا مقارنة بالمرحلة التي تسبقها، وتقود خُطا الكثير من البشر نحو المنجزات التي تركها عظماء الماضي إذ يسيرون على دروب الحقيقة. فالحشود التي كان يرضيها قبلًا حضور سباق ديربي للخيل، أضحت الآن تتذوق لوحات ميليه. والجماهير التي كانت تهز رءوسها في رضًا أثناء مشاهدة أوبرا «الفتاة البوهيمية» هم مَن صنعوا شهرة الملحِّن الموسيقي فاجنر.»
قاطعه الفيلسوف قائلًا: «ومحبو المسرح الذين كانوا يقفون لساعات كي ينصتوا لمسرحيات شكسبير يتزاحمون الآن في قاعات الموسيقى الراقصة.»
رد الشاعر: «في بعض الأحيان، ينحدر المسار قليلًا، لكنه سيعاود الصعود مجددًا. وقاعات الموسيقى الراقصة نفسها في تحسُّن؛ وأرى أن من الواجب على كل رجل مثقَّف زيارة تلك الأماكن. فالتأثير الذي يفرضه وجودهم فحسب يساعد على الارتقاء بالطابع العام للعرض الفني. وكثيرًا ما أذهب أنا نفسي إلى هناك!»
أضافت المرأة الواسعة الخبرة: «كنت أتفرَّج على بعض الصحف المصوَّرة التي ترجع لثلاثين عامًا مضت، وتُظهر رجالًا يرتدون تلك البناطيل العجيبة، الواسعة جدًّا عند الوسط والضيقة جدًّا عند الكاحلين. أتذكر أنني كنت أشاهد أبي المسكين يرتديها، وطالما رغبت في ملء الجزء العلوي منها بنشارة الخشب.»
قلت: «أتقصدين حقبة البناطيل الفضفاضة من الأعلى. أتذكرها جيدًا، لكنها كانت شائعة منذ ثلاثة وعشرين عامًا لا أكثر.»
ردَّت المرأة الواسعة الخبرة: «ما ألطف كلامك، لم أحسب أنك على هذا القدر من اللباقة. ربما كانت شائعة منذ ثلاثة وعشرين عامًا كما تقول. أنا واثقة من أني كنت طفلة صغيرة جدًّا وقتها. أظن أن ثمة رابطًا خفيًّا بين الملابس والأفكار. لا أستطيع تخيُّل الرجال ذوي الشوارب الكثة، الذين يرتدون تلك البناطيل يتحدثون مثلما تتحدثون أنتم الآن، مثلما لا أستطيع تخيُّل امرأة ترتدي فستانًا منفوشًا وقلنسوة مطرزة تدخِّن السجائر. فمثلًا أتذكر أن أمي العزيزة كانت تُبدي أكبر قدر من البساطة والمرونة عندما ترتدي ملابسها العادية، وكانت تسمح لأبي بالتدخين في أرجاء المنزل كافة. لكنها كانت ترتدي مرة كل ثلاثة أسابيع تقريبًا فستانًا حريريًّا أسود بشع المنظر، من طراز قديم حتى إن المرء يكاد يجزم بأن الملكة إليزابيث الأولى ارتدته حتمًا ونامت به في أحد المواسم عندما كانت ترتحل وتبيت في أي مكان. وحينئذٍ كنا جميعًا نضطر إلى الجلوس باعتدال ومراعاة الانتباه. وكانت تشيع في البيت عبارة «احذر، أمي ارتدت فستانها الأسود». ودائمًا ما كنا نقنع أبي بأخذنا في نزهة على الأقدام أو بالسيارة ما إن نهمس له بتلك العبارة.»
قالت المرأة العانس: «لا أتحمَّل النظر إلى تلك الصور التي تُظهر صيحات الملابس العتيقة. أرى فيها وجوه أناس مضوا بلا رجعة، فأشعر أن وجوه مَن نحبُّهم ليست سوى صيحات زائلة هي الأخرى. نحن نفكِّر بها كثيرًا ونحتفظ بها في قلوبنا، حتى يأتي وقتٌ نضعها جانبًا، وننساها، وتحل محلها وجوه جديدة، ويشعرنا هذا بالرضا. إنه أمر محزن حقًّا.»
علَّق الشاعر المغمور: «كتبت قصة منذ بضع سنوات عن مرشد سويسري شاب خطب فتاة فرنسية قروية ذات طابع مرح.»
قاطعته الفتاة خريجة كلية جريتون قائلة: «اسمها سوزيت، أعرفها، أكمل كلامك.»
صحَّح الشاعر كلامها قائلًا: «بل اسمها جاين، الغالبية العظمى من الفتيات الفرنسيات ذوات الطبع المرح في الروايات اسمهن سوزيت، وأنا أعي ذلك جيدًا. لكن أم الفتاة في قصتنا كانت تنتمي إلى عائلة إنجليزية. وقد سميت الفتاة على اسم خالتها جاين التي تعيش في برمنجهام، على أمل أن توصي الخالة للفتاة بجزء من تركتها.»
قالت الفتاة خريجة كلية جريتون: «معذرة. لم أعرف هذه المعلومة. ماذا حدث لها؟»
قال الشاعر المغمور: «في صباح أحد الأيام، قُبَيل تاريخ الزفاف ببضعة أيام، ذهبت الفتاة لزيارة قريب لها يعيش في القرية التي تقع على الجانب الآخر من الجبل. كان الطريق محفوفًا بالمخاطر؛ إذ يرتفع حتى منتصف الجبال قبل أن ينحدر مجددًا، ويمتد بمحاذاة عدد من المنحدرات الخطيرة، لكن الفتاة وُلدت في تلك المنطقة وعاشت بها؛ لذا كانت تسير بخُطًى واثقة مثل الماعز الجبلي، ولم يتصوَّر أحد أن تُصاب بأذًى.»
قال الفيلسوف: «بالطبع سقطت من فوق أحد المنحدرات، أولئك الفتيات الواثقات الخُطا دائمًا ما يقعن في النهاية.»
رد الشاعر المغمور: «لم يدرِ أحد ماذا جرى لها. فالفتاة لم تظهر مجددًا أبدًا.»
سألت الفتاة خريجة كلية جريتون: «وماذا حدث لحبيبها؟ هل عثر شباب القرية على جثته مستلقية إلى جوارها في قاع صدع جليدي، عندما خرجوا في ربيع العام التالي كي يجمعوا زهور البرسية الألبية ليزينوا بها رءوس حبيباتهم؟»
قال الشاعر: «لا، أنتِ لا تعرفين هذه القصة، من الأفضل أن تسمحي لي بسردها. عاد حبيبها إلى البلدة في اليوم السابق لتاريخ الزفاف، وحينئذٍ أبلغوه بالخبر. لم تبدُ عليه أي مظاهر الحزن، ورفض أن يواسيه أحد. بل تناول الفأس والحبال وصعد الجبل بنفسه. قضى الشتاء كله يتتبع أثرها على امتداد الطريق الذي لا بد أنها سارت فيه، لم تهمه الأخطار التي أحاطت به، ولم يؤثر به البرد أو الجوع أو التعب، ولم تثنه العواصف أو الضباب أو الانهيارات الثلجية. ومع بداية الربيع، عاد إلى القرية، وابتاع أدوات بناء، وكان يصعد الجبل يوميًّا حاملًا تلك الأدوات معه. لم يستأجر عمالًا، ورفض أي عروض بالمساعدة من إخوانه المرشدين. واختار بقعة يكاد يكون من المستحيل بلوغها، على حافة أكبر كتلة جليدية، بعيدًا عن جميع المسارات الجبلية، وبنى لنفسه وبنفسه كوخًا هناك؛ وعاش به وحده طوال ثمانية عشر عامًا.
في موسم السياحة، كان يتلقى أتعابًا جيدة؛ إذ اشتهر في أنحاء المنطقة بأنه الأشجع والأجرأ بين جميع المرشدين، لكن قلة من عملائه كانوا يحبونه؛ لأنه كان رجلًا صموتًا ومتجهمًا، فلم يكن ينطق سوى بالقليل من الكلمات، ولم يضحك أو يمزح قط في أيٍّ من الرحلات التي كان يخرج بها. ومع مقدم كل خريف، كان يتزود بالمؤن اللازمة ويأوي إلى كوخه المنعزل، ويوصد الباب، ولا يراه أحد مجددًا حتى يذوب الجليد.
لكن في إحدى السنوات، توالت أيام الربيع ولم يظهر بين المرشدين كما اعتاد، فتنامى القلق لدى الرجال الأكبر سنًّا الذين كانوا يذكرون قصته ويُشفقون عليه، وبعد مداولات طويلة قرروا أن تخرج جماعة منهم وتشق طريقها نحو كوخه على قمة الجبل. خاضوا عَبْر الثلوج حيث لم تطأ قدم أحد منهم قبلًا، حتى عثروا في آخر المطاف على الكوخ المنعزل المحاط بالثلوج، فطرقوا الباب بقوة بمقابض معاولهم؛ لكنهم لم يسمعوا ردًّا سوى صدى أصواتهم تردده آلاف الجدران الجليدية، وعندئذٍ دفع أولهم الباب المصنوع من الخشب المهترئ بكتفه القوي، فانفتح على مصراعَيه مُصدرًا جلبة.
وجدوه ميتًا، مثلما توقعوا، كان يرقد متصلبًا ومتجمدًا على الأريكة القاسية في آخر الكوخ، وبجواره وقفت جاين تنظر إليه بوجه وديع، مثل أم تراقب رضيعها النائم. كانت ترتدي الزهور التي جمعتها وثبتتها في فستانها في آخر يوم شاهدوها فيه، وكان وجهها هو الوجه ذاته الذي ضحك مودِّعًا إياهم في البلدة قبل تسعة عشر عامًا.
كان يحيط بها ضوء معدني غريب ينير أجزاء منها ويحجب أجزاءً أخرى. تراجع الرجال في خوف ظنًّا أنهم يرون شبحًا، إلى أن تقدَّم أكثرهم جرأة ومدَّ يده حتى مسَّ الثلج الذي صُنع منه كفنها.
طوال ثمانية عشر عامًا، كان الرجل يعيش هناك مع هذا الوجه الذي أحَبَّه. كان خداها الأبيضان لا يزالان تعلوهما حُمرة خفيفة، وكانت شفتاها لا تزالان حمراوَين. وفوق صدغها كان شَعرها المتموج ملبدًا أسفل كتلة متخثرة من الدماء.»
وهنا توقف الشاعر عن الكلام.
قالت الفتاة خريجة كلية جريتون: «يا لها من طريقة بشعة كي يُبقي المرء على مَن أحبَّ. متى نُشرت تلك القصة؟ لا أتذكر أنني قرأتها.»
رد الشاعر المغمور: «لم أنشرها قطُّ. ففي الأسبوع نفسه الذي كتبتها فيه، أسرَّ لي اثنان من أصدقائي، أحدهما عاد لتوِّه من النرويج والثاني من سويسرا، أنهما ينويان كتابة قصص عن الفتيات اللاتي سقطن في كتل جليدية، ثم عثر عليهن أصدقاؤهن لاحقًا متجمدات وفي حالة ممتازة؛ وبعد ذلك ببضعة أيام وقعت يدي صدفة على رواية بطلتها أُخرجت من كتلة جليدية على قيد الحياة، بعدما وقعت فيها بثلاثمائة سنة. بدا لي أن ثمة إقبال كبير على الصبايا اللاتي تجمدن في الثلج، فقررت إلا أساهم في زيادة المعروض منهن.»
قال الفيلسوف: «من الغريب أن هناك اتجاهات رائجة في الفكر أيضًا. كثيرًا ما تخطر لي فكرة أتصوَّر أنها جديدة، ثم أتناول إحدى الصحف لأجد رجلًا من روسيا أو سان فرانسيسكو يتحدَّث عن الفكرة ذاتها ويكاد يستخدم العبارات نفسها التي خطرت بذهني. نحن نقول إن أفكارًا معيَّنة تملأ الأثير من حولنا؛ يبدو أن هذا التعبير أدق مما نعي. الأفكار لا تولد بداخلنا، بل توجد خارجنا، ونحن نجمعها ليس إلا. والحقائق والاكتشافات والاختراعات جميعها لم تتأتَّ إلينا بالجهود الفردية، بل صارت الظروف مهيئة لها، فامتدت نحوها أيادي البشر من أرجاء الأرض كافة، تدفعها غريزة غامضة نحو البحث والاستكشاف. إن بوذا والمسيح وضعا أيديهما على مبادئ أخلاقية ضرورية لإقامة الحضارة، ثم أذاعا تلك المبادئ دون أن يعلم أيٌّ منهما بوجود الآخر؛ فالأول عاش على ضفاف نهر الجانج، والثاني وُلد على ضفاف نهر الأردن. وعشرات المستكشفين المجهولين، الذين استشعروا وجود أمريكا، مهدوا الطريق أمام كولومبوس كي يحقِّق اكتشافه. والتخلص من الأفكار البالية يحتاج إلى ثورة كاسحة، وروسو وفولتير والكثير غيرهم لا يألون جهدًا في سبيل إشعال شرارتها. والكلام عن المحرك البخاري والأنوال الآلية يملأ الأثير. وبينما تنشغل آلاف العقول بتلك الاختراعات، قليل منها ستخطو خطوة أبعَد من البقية في سبيل تحويلها إلى واقع. إن التحدث عن الأفكار البشرية أمر عبثي، فلا يوجد شيء من هذا القبيل. إن عقولنا تقتات على الغذاء الذي منحنا الله إياه، مثلها مثل أجسادنا. والأفكار تتناثر على جانبَي الطريق، ونحن من نلتقطها ونطبخها ونأكلها، ثم نتباهى في كل مكان بأننا «مفكرون» بارعون!»
رد الشاعر المغمور قائلًا: «لا أتفق معك. إذا كنا مجرد آلات، كما تشير حجتك، فما الغرض من خلقنا؟»
أجاب الفيلسوف: «طالما طرح الأذكياء من البشر هذا السؤال على مدار سنوات عديدة.»
قالت فتاة كلية جريتون: «أكره الأشخاص الذين يفكرون مثلي. ثمة فتاة تسكن في الطابق الذي أعيش به لا تخالفني أبدًا في الرأي. وكلما عبَّرتُ عن رأيٍ ما، أجده صار رأيها كذلك. طالما ضايقني هذا الأمر.»
قالت المرأة العانس في غموض: «ربما دل ذلك على خفة العقل.»
علَّقت المرأة الواسعة الخبرة بقولها: «الأشد إزعاجًا من ذلك هو وجود شخص يختلف معك على الدوام. ابنة عمي سوزان لم تتفق أبدًا في الرأي مع أي شخص. إذا قدِمتُ إلى العشاء مرتدية اللون الأحمر كانت تقول: «لمَ لا تجربين اللون الأخضر يا عزيزتي؟ فاللون الأخضر يناسب الجميع»؛ وإذا ارتديت الأخضر تقول: «لمَ هجرتِ اللون الأحمر يا عزيزتي؟ لقد ظننت أنك تحبين هذا اللون عليك.»
وعندما أخبرتها بخِطبتي إلى توم، انفجرت في البكاء، وقالت إنها لم تستطع حبس دموعها لأنها طالما ظنت أنني وجورج توأمَا روح، وعندما انقطع توم عن إرسال الخطابات طوال شهرين كاملين، وارتكب أفعالًا مخزية أخرى، وأخبرتها أنني خُطبت لجورج، ذكرتني بكل كلمة حب نطقتها في حق توم، وبأنني كنت أسخر من جورج المسكين. كان بابا يقول: «إذا قال رجل لسوزان إنه يحبها، سوف تجادله حتى تقنعه بالعكس، ولن تقبل به أبدًا حتى يهجرها، وسوف ترفض الزواج منه كلما طلب منها تحديد موعد الزفاف.»»
سأل الفيلسوف: «أهي متزوجة؟»
أجابته المرأة الواسعة الخبرة: «أجل، بالطبع. وقد كرست حياتها لتربية أطفالها؛ إذ تجعلهم يفعلون كل شيء لا يرغبون في فعله.»