وقائع انحراف توماس هنري
فور أن رأته زوجتي علَّقَت بأن اسم هنري يليق به أكثر من توماس. عندئذٍ أدركتُ فجأة أن الاسمين معًا يُناسبانه أكثر، وعليه صِرنا نُناديه في حدود أسرتنا بتوماس هنري. وعندما نرد على ذكره أمام الأصدقاء، كنا نشير إليه عادةً باسم جناب الأستاذ توماس هنري.
تقبَّلَنا توماس هنري بطريقته الهادئة المتحفِّظة. اختار أن يجلس على المقعد المريح الخاص بي، وصار هذا مكانه المفضَّل. لو كان قطًّا عاديًّا لكنت سأطرده طردًا من الكرسي، لكن توماس هنري لم يكن قطًّا يُبعده الصياح والتلويح. لو كنت قد أوضحت له أنني أعترض على جلوسه فوق كرسيٍّ، فإني أوقن أن رد فعله لم يكن ليختلف عن رد فعل الملكة فيكتوريا لو كانت السيدة العظيمة قد قدمت إلى بيتي في زيارة ودية ثم أخبرتها أنني مشغول، وطلبت منها أن تمر عليَّ في وقت آخر. بعبارة أخرى، كان سينهض ويغادر الكرسي، لكنه لن يتحدث إليَّ أبدًا بعد ذلك طوال تواجدنا معًا تحت سقف واحد.
كانت تقيم معنا وقتها آنسة مهذَّبة لا تكنُّ احترامًا كبيرًا للقطط؛ وهي لا تزال تقيم معنا، لكنها صارت أكبر عمرًا وأكثر حكمة. كانت ترى أن الذيل هو الأداة الطبيعية لحمل القطة، بما أنه يبرز لأعلى ومن السهل الإمساك به. وكانت تظن خطأً أن القطط تأكل عَبْر حشر الطعام في فمها حشرًا، وأنها تستمتع بالتنزُّه داخل عربة الأطفال الخاصة بالدمى. كنتُ متوجِّسًا من اللقاء الأول بين توماس هنري وهذه الآنسة المهذَّبة. خشيت أن تعطيه انطباعًا خاطئًا عن أسرتنا، ما يجعلنا نقلُّ في نظره.
لكن اتضح أن قلقي هذا كان بلا داعٍ. فتوماس هنري كان يتمتَّع بسمةٍ ما تحول دون معاملة الآخرين له بجرأة وأُلفة زائدة. كان توماس لطيفًا معها وحازمًا في الوقت نفسه. كانت تمد يدَيها بخجل وتردُّد، بفعل ما اكتسبته مؤخرًا من احترام القطط، نحو ذيله؛ فكان يحرِّكه برفق للناحية الأخرى، ثم ينظر إليها. لم تكُن نظرته غاضبة أو مستاءة. بل كانت تشبه نظرة الملك سليمان إلى ملكة سبأ إذ تحاول التقرُّب منه. نظرة تعبِّر عن تعالٍ ممزوج بتحفُّظ.
لكن لكل امرئ نقطة ضعف، ونقطة ضعف توماس هنري كانت البط المشوي. كشف لي سلوك توماس هنري في وجود بطة مشوية عن حقيقة مهمة تخص تركيبه النفسي. فسلوكه هذا أظهر لي فورًا الجانب الحيواني الأدنى من طبيعته. في حضرة البط المشوي، كان توماس هنري يتحوَّل إلى مجرَّد قطٍّ عادي، خاضع لجميع الغرائز المتوحِّشة التي تحكم فصيلته. كان وقاره يتبدَّد كأن لم يكن، ويحاول هبش البطة بمخالبه، ويتوسَّل من أجل الحصول على قطعة. أوقن أنه لم يكن ليمانع بيع روحه للشيطان مقابل بطة مشوية.
لهذا السبب تجنَّبْنا تقديم هذا الطبق تحديدًا: فقد صعُب علينا مشاهدة أخلاق القط تفسد هكذا. فضلًا عن أن تصرُّفاته في أثناء وجود بطة مشوية على مائدة الطعام جعلت منه قدوة سيئة للأطفال.
كان نموذجًا يُحتذى به بين جميع قطط الحي. وكان بوسع المرء ضبط ساعته على جدوله اليومي. فبعد العشاء، حرص دومًا على التمشية لمدة نصف ساعة في الساحة؛ وكل ليلة، في العاشرة مساءً بالضبط، كان يعود إلى مدخل البيت، وفي الحادية عشرة، تجده نائمًا في الكرسي المريح الخاص بي. لم يصادق أيًّا من القطط الأخرى. ولم يكن يهوى الشجار، وأشك أنه أحبَّ من قبل، حتى في شبابه؛ فطبيعته المتحفِّظة الجافة المشاعر جعلته لا يُبدي أدنى اهتمام برفقة الإناث.
وهكذا عاش توماس هنري معنا طوال الشتاء دون أن يزعجنا البتة. وعندما حل الصيف، اصطحبناه معنا إلى الريف. ظننا وقتها أن تغيير الأجواء سوف يفيده؛ فقد بدأ يكتسب بعض الوزن الزائد. لكن وا أسفاه على توماس هنري المسكين! لقد دمَّر الريف حياته. لا أدري سبب التحوُّل الذي طرأ على شخصيته، ربما كان هواء الريف منعشًا أكثر من اللازم. بَيْد أنه انزلق في دوامة الانحراف الأخلاقي بسرعة مخيفة. في أول ليلة قضيناها هناك، بقي خارج المنزل حتى الحادية عشرة مساءً، وفي الليلة التالية لم يعُد قطُّ إلى البيت، ثم عاد في الليلة الثالثة في الساعة السادسة صباحًا، لكنه فقَدَ نصف الفراء الذي يغطِّي قمة رأسه. بالطبع عرفت أن ثمَّة قطة متورِّطة في تلك المسألة، بل أكثر من قطة، بالنظر إلى الصخب الذي دار طوال الليل. وبما أن توماس هنري كان قطًّا وسيمًا حقًّا، فقد شرعن ينادين عليه في النهار. ثم أتت القطط الذكور، ممَّن وقع عليهم الضرر، وبدءوا ينادون عليه أيضًا، مطالبين إياه بتبرير موقفه، ولدواعي الإنصاف كان توماس هنري دائمًا على استعداد للاستجابة لهذا المطلب.
صار صبية القرية يتسكَّعون حول البيت طوال النهار لمشاهدة المعارك الدائرة، وعكفَت ربَّات البيوت على اقتحام مطبخنا وإلقاء جثث القطط الميتة على طاولة المطبخ، وهن يناشدن السماء، ويناشدنني، لرفع ما لحق بهنَّ من ظُلم. أضحى مطبخنا مَشْرحة فِعليَّة للقطط، واضطررت إلى شراء طاولة مطبخ جديدة. إذ زعمت الطبَّاخة أن عملها سيصير أسهل إذا خصَّصنا لها طاولة منفردة. وأضافت أن وجود العديد من القطط الميتة بجوار قطعيات اللحم والخضروات يُصيبها بالارتباك؛ وكانت تخشى أن ترتكب خطأً ناجمًا عن اللبس. وبناءً عليه، وضعنا الطاولة القديمة أسفل النافذة وخصَّصناها للقطط؛ وبعد ذلك لم تسمح الطبَّاخة أبدًا لأحد أن يضع قطة، وإنْ كانت ميتة، فوق طاولتها.
سمعتها تسأل سيدة مُنفعِلة في إحدى المرَّات: «ماذا تودِّين مني أن أفعل بها، أطبخها؟»
قالت السيدة: «إنها قطتي!»
ردَّت الطباخة: «حسنًا، لا أنوي تحضير فطيرة لحم القطط اليوم.» ثم أردفت: «ضعيها على الطاولة المُخصَّصة للقطط. هذه الطاولة تخصُّني.»
في البداية، كان «رفع الظلم» يتم لقاء شلنَين ونصف شلن، لكن مع الوقت علا ثمن القطط. حتى ذاك الحين، كنت أظنُّ أن القطط سلعة رخيصة، بَيْد أني فوجئت بالقيمة المادية التي يُطالب بها أصحابها. بدأتُ أفكر جديًّا في العمل بمجال استيلاد القطط وبيعها. فنظرًا إلى أسعار القطط السارية في تلك القرية، يمكنني تحقيق دخل يُقدَّر بآلاف الجنيهات.
في إحدى المرَّات، نادوني في منتصف وجبة العشاء كي أحادث امرأة حانقة تقول: «انظر ما فعله الوحش الذي تربيه.»
نظرت. اتضح لي أن توماس هنري قد قضى على قط هزيل أجرب، من المؤكَّد أن الموت كان راحة له. بل إنني كنت سأشكر توماس هنري لو كان ذاك الحيوان المسكين يخصُّني؛ لكن بعض الناس لا يميِّزون ما في مصلحتهم.
قالت السيدة: «لم أكُن لأبيع ذلك القط مقابل خمسة جنيهات.»
رددت بقولي: «هذا رأيك، لكني أظن أن رفض مبلغ كهذا هو قرار تعوزه الحكمة. ونظرًا إلى حالة الحيوان، لا أرى أن عليَّ دفع أكثر من شلن تعويضًا لك. إذا كنتِ ترين أن بوسعك الحصول على عرض أفضل في مكان آخر، فلن أمنعك.»
تابعت السيدة: «لقد كان قطًّا وديعًا مثل مسيحيٍّ تقي.»
أجبتها بحزم: «لا أدفع تعويضات مقابل المسيحيين الموتى، وحتى لو كنت سأدفع تعويضًا، فلن أقدر العيِّنة المعروضة أمامي بأكثر من شلن. وسواء كان قطًّا أو مسيحيًّا في نظرك، فإنه لا يساوي أكثر من شلن في كلتا الحالتَين.»
اتفقنا في النهاية على شلن ونصف.
فوجئت كذلك بعدد القطط التي تمكَّن توماس هنري من قتلها. بدا لي أن القرية تشهد مذبحة حقيقية للقطط.
وفي إحدى الأمسيات، ذهبت إلى المطبخ، فقد اعتدت الذهاب إلى المطبخ كل ليلة لتفقُّد حصيلة القطط الميتة، عندما وجدت بين الجثث، جثة قطة مبرقشة، لفرائها نمط مُميَّز، ترقد فوق الطاولة.
قال مالكها، الذي وقف على مقربة يحتسي البيرة: «تلك القطة تُساوي عشرة شلنات.»
التقطت الجثة وفحصتها عن قُرب.
تابع الرجل حديثه قائلًا: «لقد قتلها قطك أمس. عارٌ عليه.»
رددتُ عليه بقولي: «إن قطي قد قتلها ثلاث مرات حتى الآن.» ثم تابعت موضحًا: «يوم السبت كانت قطة السيدة هيدجر، ويوم الاثنين كانت قطة السيدة مايرز. لم أكُن متأكدًا أنها القطة نفسها يوم الاثنين؛ لكني شككت في الأمر ودوَّنتُ بعض الملاحظات. والآن أستطيع تمييزها بوضوح. فلتستمع إلى نصيحتي وتدفنها قبل أن تنشر المرض. لا يهمني عدد الأرواح التي تملكها تلك القطة؛ لن أدفع تعويضًا إلا عن روح واحدة.»
منحنا توماس هنري العديد من الفرص أملًا في أن ينصلح حاله، لكنه مضى من سيئ إلى أسوأ، وأضاف صيد الحيوانات في الأراضي المملوكة للغير ومطاردة الدجاج إلى جرائمه الأخرى، وتعبت من دفع المال تعويضًا عن آثامه.
طلبتُ المشورة من البستاني، فقال إنه عرف قططًا أُصيبت بهذه الحالة قبلًا.
سألته: «هل تعرف علاجًا لها؟»
رد بقوله: «في واقع الأمر، سمعت أن ضربة سريعة على الرأس يليها إلقاءٌ في البِركة قد يفيد بشكل عام في تلك الحالات.»
رددتُ: «حسنًا، سوف نجرِّب ذلك معه قبل موعد النوم.» تولى البستاني هذه المهمة، وهكذا انتهى توماس هنري وانتهت معه متاعبه.
يا لتوماس هنري المسكين! إن قصته دليل على أن البعض يوصفون بالاحترام والتهذيب لا لسبب سوى أنهم لم يتعرَّضوا للإغراء. لقد وُلد وتربى في أجواء نادي الإصلاح؛ حيث تنعدم فرص الانحراف. طالما أسفت على مصير توماس هنري، ومنذ ذلك الحين لم أعُد أومن أبدًا بالتأثير الأخلاقي للريف.