حكاية مدينة البحر
يحكي المؤرخون، الذين كتبوا تاريخ هذا الساحل المنخفض الذي تغزوه الرياح، أنه قبل سنوات مضَت كان خط الْتِقاء مياه المحيط باليابسة يقع على مسافة أبعَد شرقًا؛ وأن الأرض المليئة بالشعاب الرملية الغادرة والتي تغطِّيها الآن مياه بحر الشمال كانت في ذاك الزمن أرضًا يابسة. في تلك الأيام، فوق الأرض الممتدة بين الدير والبحر، كانت هناك مدينة تضم أربع كنائس مزدهرة وسبعة أبراج، ويحيط بها جدار يبلغ سُمكه اثني عشر حجرًا، ما جعلها مركز قوة ونفوذ، حسبما ظن رجال ذلك العهد؛ وعندما كان الرهبان في حديقة الدير الواقع فوق التل يوجِّهون أبصارهم للأسفل كانوا يرون تحت أقدامهم الشوارع الضيقة التي تكتظ بحركة مرور البضائع الثمينة، وأرصفة الميناء والمجاري المائية التي تصخب على الدوام بأحاديث من شتى اللغات، والصواري المطليَّة لسفن عديدة؛ إذ تتأرجح يمينًا ويسارًا كأنما تومئ برءوسها بجدية من فوق نوافذ أسطح البيوت وجلموناتها المصنوعة من خشب البلوط.
وهكذا عاشت المدينة في ازدهار ورخاء حتى حلَّت ليلة اقترف فيها أهلها شرًّا تحت سمع وبصر البشر والرب. شهد هذا الزمن أيامًا عصيبة للسكسونِيِّين القاطنين على ساحل البحر؛ فالقراصنة الدنماركيون كانوا يحتشدون، مثل جرذان الماء، عند مصب كل نهر، ويتشمَّمون رائحة الكنوز من بعيد؛ وكثيرًا ما كان رجال إيست أنجيليا يلمحون بريق أسنانهم القوية والحادة، لكن لم يرَهم في إيست أنجيليا كلها أكثر من حرَّاس جدار المدينة ذات الأبراج السبعة التي وقفت يومًا على أرض يابسة صارت الآن ترقد في أغوار المحيط. دار العديد من المعارك الدموية خارج جدارها السميك في بعض الأحيان وداخله في أحيان أخرى. فكان أنين الرجال المحتضرين وصرخات النساء القتلى ونحيب الأطفال المشوهين تمر جميعًا بباب الدير في طريقها نحو السماء كي تسأل الرهبان المرتجفين في أسِرَّتِهم أن يصلُّوا لأجل الأرواح التي تصعد إلى بارئها.
لكن السلام حلَّ أخيرًا على الأرض التي طالما سادتها النزاعات، عندما اتفق الدنماركيون والسكسونِيُّون على العيش جنبًا إلى جنب وأن تجمع بينهم أواصر الصداقة، في أرض إيست أنجيليا الواسعة التي تتسع لكليهما. وعمَّت البهجة قلوب كل الرجال، فقد تعبوا جميعًا من صراع لم يجنِ منه الطرفان شيئًا سوى تكسير العظام، وباتوا يتوقون إلى حياة هادئة قرب نيران المدفأة. ومن ثَم صار الدنماركيون ذوو اللِّحى الطويلة يغدون ويروحون في جماعات متفرِّقة، يحملون على ظهورهم فئوسهم التي كانت متعطِّشة قبلًا للدماء، لكنها أضحت الآن مأمونة الجانب، ويبحثون عن مكان يبنون فيه بيوتًا لهم دون أن يُزعجوا أحدًا أو يُزعجهم أحد؛ حينئذٍ دنا هافاجر وجماعته، في ساعة غروب، من مدينة الأبراج السبعة، التي وقفت يومًا ما على أرض يابسة بين الدير والبحر.
عندما رأى أهل المدينة الدنماركيين فتحوا البوابات على مصراعَيها وخاطبوهم قائلين: «لقد تحاربنا، لكن الآن حلَّ السلام بيننا، ادخلوا مدينتنا واحتفلوا معنا، ولْتواصلوا رحلتكم غدًا.»
لكن هافاجر رد قائلًا: «إني رجل عجوز، وأرجو ألا تُسيئوا فَهْم كلماتي. لقد حلَّ السلام بيننا حقًّا، كما تقولون، ونحن نشكركم على حُسن استقبالكم، لكن سيوفنا لا تزال تحمل آثار الدماء. دعونا نخيِّم هنا خارج جدار مدينتكم، وفيما بعد، عندما يطوي الزمان صفحة معاركنا، ويمنح شبابنا فرصة نسيان ما جرى في الماضي، فسوف نحتفل معًا بعدما أصبحنا جيرانًا يعيشون جنبًا إلى جنب على الأرض نفسها.»
لكن رجال المدينة ظلوا يُلحُّون على هافاجر، زاعمين أن جماعته هم جيرانهم؛ وانضم إليهم رئيس الدير، الذي هبط مسرعًا خشية وقوع نزاع، قائلًا: «ادخلوا يا أبنائي. فليحل السلام بيننا، وليبارك الرب أرضنا وشعبينا»؛ ورأى رئيس الدير أن رجال المدينة يُبدون مودة تجاه الدنماركيين، وكان يعرف أن الرجال عندما يأكلون ويشربون معًا تتوثَّق أواصر المحبة بينهم.
أجاب هافاجر، الذي سمع أن رئيس الدير رجل تقي: «ارفع عصاك يا أبتِ كي يسقط ظِل الصليب الذي يعبده قومك على دربنا إذ ندخل مدينتكم في سلام، نحن نعبد آلهة غير آلهتكم، لكن عهد الثقة بين الرجال يتجاوز اختلاف الأديان.»
رفع رئيس الدير عصاه، التي على شكل صليب، عاليًا بين الشمس وجماعة هافاجر، وتحت ظلها عَبَر الدنماركيون بوابات المدينة ذات الأبراج السبعة، وكان عددهم يُقدَّر بنحو ألفَي إنسان، من الرجال والنساء والأطفال، وأُغلقت أبواب المدينة خلفهم بإحكام.
وهكذا بعدما تقاتل الرجال وجهًا لوجه، باتوا يتناولون الطعام معًا، ويحتسون نخب الصداقة كما جَرَت العادة في تلك الأيام؛ ونزع رجال هافاجر أسلحتهم؛ إذ رأوا أنهم مُحاطون بالأصدقاء، وعندما انتهت الوليمة، استسلموا للنوم شاعرين بالإنهاك.
حينئذٍ سُمع في أرجاء المدينة صوت شرير يقول: «مَن هؤلاء الذين أتوا إلينا كي يتقاسموا أرضنا؟ ألَا ترون أن أحجار الشوارع لا تزال حمراء اللون من أثر دماء النساء والأطفال الذين نَحروا أعناقهم؟ هل يصح أن يترك الرجال الذئاب تذهب في حال سبيلها بعدما نجحوا في صيدها بقطع اللحم؟ فلنهجم عليهم الآن وهم مُتْخَمون بالطعام والنبيذ، فلا يتمكن أحد منهم من الهرب. وبذلك نضمن حماية أنفسنا من شرهم وشر أطفالهم.»
صارت الغلبة لصوت الشر، وهجم رجال المدينة على الدنماركيين الذين تقاسموا معهم اللحم والشراب؛ ولم يرحموا النساء والأطفال الصغار منهم؛ وصرخت دماء جماعة هافاجر على بوابة الدير طوال الليل قائلة: «لقد صدَّقنا العهد الذي قطعته. لقد تقاسمنا اللحم معك. لقد وثقنا فيك وفي إلهك. وعبَرنا بوابات مدينتك تحت ظِل الصليب. فليرد إلهك علينا!»
وظلَّت صرخاتهم تدوي حتى الفجر.
عندئذٍ نهض رئيس الدير من حيث ركع ودعا الله قائلًا: «لقد سمعت شكواهم يا إلهي، فلتستجب لهم.»
وفجأةً انبعث من البحر صوت رهيب، قادم من أغوار سحيقة، فجثا الرهبان على ركبهم في خوف، لكن رئيس الدير قال: «إنه صوت الله، لقد تحدَّث عَبْر الماء. لقد استجاب لدعائهم.»
وفي ذلك الشتاء هبَّت عاصفة هوجاء، لم يرَ البشر مثيلًا لها قبلًا؛ وغمر البحر اليابسة وبلغت أمواجه قمة أعلى برج من أبراج المدينة السبعة؛ واندفعت الأمواج فوق الأرض. حاول أهل مدينة الأبراج السبعة الهرب من السيل القادم، لكن المياه جرفتهم ولم يفلت أحد منهم. وهكذا دفنت المدينة التي ضمَّت يومًا سبعة أبراج وأربع كنائس والعديد من الشوارع وأرصفة الميناء أسفل المياه، وظلَّت الأمواج تتقدم حتى بلغت التل الذي يقع الدير فوقه. وعندئذٍ دعا رئيس الدير الله أن تتوقف المياه، واستجاب الله لدعائه، وسكن البحر.
تلك الأحداث التي رويتها لكم قد حدثت بالفعل؛ وليست حكاية رمزية نسجتها بكلماتي، ومَن ينتابه شك فيما أقوله فليسأل الصيادين الذين يُلقون شِبكاهم بين الشعاب والتلال الرملية في ذلك الساحل المنعزل. فبعضهم حدق أسفل مقدمة سفنهم الصغيرة ورأوا تحتهم مدينة ذات شوارع غريبة وأرصفة ميناء كثيرة. بَيْد أني، راوي هذه القصة، لم أرَ هذا المشهد بنفسي، فمدينة البحر لا يمكن رؤيتها إلا عند هبوب رياح نادرة من الشمال، تزيح الأمواج؛ وعلى الرغم من أني زرت في العديد من الأيام المشمسة البقعة التي سبق أن احتلَّتْها أبراجها السبعة، فإني لم أشهد أبدًا تلك الرياح التي تمحو عتمة الموج، وطالما حدَّقت بعينَيَّ إلى الأسفل بلا جدوى.
لكني أعرف على الأقل أن الأحجار الثقيلة للدير العتيق، الذي سبق أن وقعت المدينة ذات الأبراج السبعة بينه وبين حافة المحيط، يقع الآن فوق جرف تضربه الأمواج، ومَن ينظر اليوم عَبْر أُطُر نوافذه المحطَّمة فلن يرى سوى أرض تكسوها المستنقعات وتموُّجات المياه، ولن يسمع سوى نحيب النوارس الحوامة وأنين البحر المنهك.
بَيْد أن غضب الرب لا يدوم إلى الأبد، والشر الكامن في قلوب البشر سوف تُجتز جذوره، ومَن يشك في هذا فليتعلم من حكمة الصيادين البسطاء القاطنين على حافة أراضي المستنقعات؛ فسوف يخبرونه أنه في الليالي العاصفة، يتحدَّث صوت عميق من البحر، ويدعو الرهبان الموتى إلى النهوض من قبورهم المنسية كي يقيموا قدَّاسًا على أرواح رجال مدينة الأبراج السبعة. فيسير الرهبان ببطء فوق ممرات الدير التي يغطيها العشب مرتدين مسوحًا بيضاء ناصعة، وتعلو موسيقى صلواتهم فوق صرخات العاصفة. وبوسعي أن أشهد على ذلك، فقد لمحتُ أطيافهم الغامضة خلف ظُلمة أعمدة الدير المحطَّمة؛ وسمعت غناءهم العذب الشجي يعلو فوق عويل الرياح.
وهكذا ظلَّ الرهبان الموتى يُصلُّون على مَرِّ العصور كي يغفر الله لرجال مدينة الأبراج السبعة. وهكذا سوف يعكفون على الصلاة حتى يأتي يوم لا يبقى فيه من الدير، الذي كان بناءً مهيبًا في الماضي، حجر فوق حجر؛ وفي ذلك اليوم سيدرك الجميع أن الله قد رفع غضبه عن رجال مدينة الأبراج السبعة؛ وفي ذلك اليوم سوف تنحسر المياه، وسوف تقف المدينة مجددًا فوق أرض يابسة.
أعلم أن البعض سيقولون إن حكايتي هذه ليست سوى خرافة؛ سوف يقولون إن الظلال الغامضة التي قد تراها العين في ليلة عاصفة وهي تلوح بأذرعها البرَّاقة خلف الأعمدة المهدمة ليست سوى زبد بحر ذي بريق فسفوري، أطاحت به الأمواج العاتية إلى أعلى الجرف؛ وأن اللحن الحزين الذي يشق الليل المضطرب ليس سوى موسيقى عصف الرياح.
لكن هذا حديث العميان الذين لا يرون بغير أعينهم. أما أنا فأرى الرهبان ذوي المسوح البيضاء، وأسمع إنشادهم في القدَّاس الذي يقيمونه على أرواح الآثمين في مدينة الأبراج السبعة. إذ يُقال إنه كلما ارتُكب إثم، وُلدت صلاة تظل تكفر عنه حتى أبد الآبدين. وهكذا يقبع العالم كله بين أيادي البشر المتضرعة، الموتى منهم والأحياء، التي تحميه مثل درع حصين من غضب الله العارم.
لذا، أعلم أن الرهبان الصالحين الذين سكنوا هذا الدير لا يزالون يصلون كي يغفر الله خطايا الناس الذين أحبوهم.
ولذا أبتهل إلى الله أن يهب لنا رجالًا صالحين ينشدون قدَّاسًا على أرواحنا.