امرأة عصرية ذكية

أعترف بأني لا أحب كونتيسة مقاطعة … فهي ليست من نوع النساء الذي قد أحبه. ولا أتردَّد كثيرًا في التعبير عن شعوري هذا لأني على قناعة بأن الكونتيسة لن تحزن كثيرًا إنْ بلَغَها كلامي. فلا أستطيع تصوُّر أن كونتيسة … قد يُضايقها رأي كائنٍ كان فيها، سواء من عالم البشر أو من السموات العلا، ولا يهمها سوى رأيها في نفسها.

لكن للأمانة، أقرُّ بأنها زوجة مثالية لإيرل المقاطعة. هي تتحكم به مثلما تتحكم بالآخرين جميعًا من أقارب وعاملين بالمنزل، بدءًا من راعي الأبرشية وحتى حماتها، ورغم أنها تُحكم قبضتها على شئونه، فإن حُكمها يتَّسم بالعدل والرفق، فضلًا عن أن دافعها في ذلك حسَن النية. ولا يمكن تخيُّل أن إيرل مقاطعة … كان سيحيا تلك الحياة الهانئة مع زوجة ذات طابع أقل نزوعًا للهيمنة. إنه رجل ساذج وودود، من النوع الذي يتسم ببنية قوية وشخصية طفولية، ويحتاج إلى أن ترشده النساء في حياته في أموره كافةً، بدءًا من كيفية ربط وشاحه حول عنقه حتى اختيار الحزب السياسي الذي سينضم إليه. يحيا أولئك الرجال حياةً رغدة عندما تتولى أمورَهم نساءٌ صالحات عاقلات، لكن حالهم يصير مُزريًا إذا وقعوا تحت أيدي نساء أنانيات أو حمقاوات. وهم كثيرًا ما يقعون في شبابهم الغَض ضحايا لفتيات سيئات الخُلق والمزاج من اللاتي يغنِّين في جوقة الكنيسة أو لسيدات في منتصف العمر من الفئة التي بسببها حَكمَ الشاعر ألكسندر بوب على جميع النساء بأنهن بلا شخصية. يتحول هؤلاء الرجال إلى أزواج ممتازين شريطة أن تُحسن زوجاتهم إدارتهم؛ وإنْ تعرَّضوا لسوء المعاملة، فلن يشتكوا كثيرًا لكنهم سيشرعون — مثل القطط التي لا يُعجبها أصحابها — في البحث عن راعيات أطيب قلبًا، وعادةً ما تُكلَّل مساعيهم بالنجاح. بَيْد أن إيرل مقاطعة … كان يعشق زوجته، ويعُدُّ نفسه من أسعد الأزواج حظًّا، وتلك الشهادة هي غاية آمال أي زوجة. وقبل أن تنجح الكونتيسة في التغلُّب على جميع منافسيها والفوز به زوجًا، كان يلتزم بطاعة أمه التزامًا يكاد ينمُّ عن حماقة. وإذا ماتت الكونتيسة غدًا، فسوف يعجز عن إبداء رأيه في أي مسألة حتى تقرِّر ابنته الكبرى وأخته التي لم تتزوج بعد، وكلتاهما تتمتَّعان بشخصية قوية وتجمعهما صداقة قوامها العداء المتبادل، مَن منهما سوف تتولى رعايته وإدارة شئون المنزل.

بَيْد أنه لا أحد يساوره قلق حيال قدرة الكونتيسة على مواصلة توجيه الصوت الذي ورثه إيرل مقاطعة … نحو تحقيق الصالح العام ومراعاة الحس السليم، وإرشاد سياسته الاجتماعية عَبْر ما تتمتَّع به من طيبة قلب وحُسن تمييز، وإدارة أملاكه بحكمة وتدبير لسنوات كثيرة قادمة (ما لم يقع حادث ما). إنها امرأة نشيطة ضخمة الجسد تنعم بالصحة والعافية، وتجري في عروقها دماء أسلافها الأشداء، فضلًا عن أنها تعتني بنفسها عنايةً ممتازة مثلما تعتني بجميع مَن يعتمدون عليها في النصح والتوجيه.

في إحدى الأمسيات كنت أنا وزوجتي نتناول العشاء في بيت طبيب القرية، في جو عائلي بسيط، وبعدما انتقلت زوجتانا إلى غرفة الجلوس كي تأخذا راحتهما في مناقشة موضوعات تتعلق بالخدم والأزواج وغير ذلك من الأمور المنزلية، وتركتانا نحتسي النبيذ الأحمر في ضوء الشفق، قال الطبيب: «أتذكر أن الكوليرا تفشَّت في قريتنا منذ عشرين عامًا تقريبًا، وحينها تخلَّت هذه المرأة عن حضور الموسم الاجتماعي بلندن كي تبقى هنا وتأخذ على عاتقها جميع الأعباء الناجمة عن انتشار هذا الوباء. لا أشعر بوجوب مدحها على مساهمتها، فهي أحبَّت العمل وبرعت فيه على نحو فطري، بَيْد أن الجميع استفاد مما قدَّمَته. لم تكُن تخشى شيئًا. كانت تحمل الأطفال بين ذراعَيها إنْ تطلَّب الأمر نقلهم حالًا ولم تكُن عربة الإسعاف الصغيرة متاحة. ورأيتها تجلس طوال الليل في غرفة تزيد مساحتها عن المتر بقليل، بين زوج وزوجة يحتضران، دون أن يُصيبها شيء. وقبل ست سنوات، تفشَّى مرض الجُدَري، فشمَّرَت عن ساعدَيها وهبَّت للمساعدة بالطريقة نفسها. لا أظن أنها مرضت يومًا في حياتها. وسوف تظلُّ تداوي أهل الأبرشية بعدما يصير جسدي عظامًا متناثرة في قبري، وسوف تُرسي قواعد الأدب بعدما يصير التمثال الذي يعلو قبرك مَعْلمًا مألوفًا في كنيسة وستمينستر آبي. إنها امرأة رائعة، لكنها تنزع إلى فرض هيمنتها على الآخرين بعض الشيء.»

ثم ضحك، لكني استشعرتُ بعض الضيق في صوته. بدا أن مضيفي يتوق إلى فَرْض هيمنته هو الآخر. ولا أظن أنه سُر كثيرًا عندما استولَت هذه السيدة الأرستقراطية العظيمة بطريقتها الهادئة على كل ما يحيط بها، بما في ذلك هو نفسه وعمله.

سألني: «هل سمعتَ قصة هذا الزواج؟»

أجبتُه: «لا، زواج مَن؟ أتقصد زواج الإيرل؟»

أجابني: «بل زواج الكونتيسة منه بالأحرى. لم يكن لأهل القرية حديث سوى إلا تلك القصة عندما قدمت هنا لأول مرة، لكن أحداثًا أخرى أكثر إثارة للاهتمام وقعت بيننا وغيبتها تدريجيًّا عن الذاكرة. أعتقد أن معظم الناس تقريبًا قد نسوا أن الكونتيسة كانت تعمل في مخبز قبل زواجها من الإيرل.»

صِحتُ متعجِّبًا: «غير معقول!» وأقرُّ أن هذا التعليق يبدو أضعف تأثيرًا وهو مكتوب؛ مثلما يحدث دائمًا للتعليقات التي تتسم بأكبر قدر من التلقائية.

قال الطبيب: «تلك هي الحقيقة، ومع ذلك هي لا توحي بأنها كانت عاملة في متجر قبلًا، أليس كذلك؟ لكني عرفت كونتيسات انحدرن من نسل ويليام الفاتح مباشرةً، ورغم ذلك كُنَّ يتركن هذا الانطباع لدى المرء، ما يخلق توازُنًا ما على ما يبدو. إن ماري، كونتيسة مقاطعة … كانت تدعى قبل ثلاثين عامًا ماري سويل، وهي ابنة تاجر أقمشة من مدينة تونتون. ورغم أن عمله كان مُربِحًا بمقاييس المشاريع التجارية في الريف، فإنه لم يكفِ لتلبية احتياجات عائلته، التي تتكوَّن من سبعة أولاد وثماني بنات، حسبما أعتقد. وهكذا اضطرت ماري، وهي صغرى شقيقاتها، إلى السَّعي لإعالة نفسها فور أن أنهَت تعليمها الوجيز. وقد جربت العمل بمهنة أو اثنتين، حتى شغلت أخيرًا وظيفة لدى ابن عم لها، يعمل خبَّازًا وحلوانيًّا، ويملك متجرًا ناجحًا في شارع أكسفورد. لا بد أنها تمتَّعَت بجاذبية ملحوظة في صباها، فهي امرأة جميلة الآن. يمكنني تخيُّل بشرتها العاجية الناعمة عندما كانت تتسم بالنضارة والصفاء، فضلًا عن أن فتيات غرب إنجلترا عادةً ما يتمتَّعن بغمَّازات وبعيون لامعة كأنما استحمَمْن لتوِّهنَّ في ندى الصباح. كان المتجر يحقِّق ربحًا جيدًا من تقديم وجبات الغداء للسيدات؛ وفي تلك الحقبة كانت هذه الوجبات تتكوَّن من كأس من نبيذ شيري والبسكويت الحلو. أظن أنها كانت ترتدي فستانًا رماديًّا أو أسود قصير الكُمَّين، مضبوطًا عليها، ويُظهر ذراعَيها الممتلئتَين، وكانت تتحرَّك سريعًا بين الطاولات ذات السطح الرخامي وهي تبتسم، فتبدو حلوة ولطيفة. وهناك رآها لأول مرَّة إيرل مقاطعة … اللورد سي الشاب وقتها، وكان قد تخرَّج حديثًا في جامعة أكسفورد ولم يعهد بعدُ الأخطارَ التي تحيط بالشباب العزاب في لندن. كان الإيرل يصطحب بعض النساء من قريباته إلى المصوِّر، ونظرًا إلى أن الفنادق والمطاعم كانت تُعد أماكن غير ملائمة تمامًا للسيدات في تلك الأيام، فقد اضطر إلى أخذهن لمخبز سويل لتناول وجبة الغداء. أقامت ماري سويل على خدمتهم في ذلك اليوم، والآن معظم مَن لا يزالون أحياءً منهم يقومون على خدمتها.»

قلت له: «كان قرار الزواج منها قرارًا سديدًا. أُحيِّيه عليه.» فقد كنت أشعر حينها بحالة من الحب والتسامح تجاه جميع الرجال والنساء، وفيهم الأرستقراطيون أصحاب الألقاب، بفضل ذلك النوع الممتاز من النبيذ المعتَّق الذي قدَّمَه لي الطبيب.

ضحك الطبيب قائلًا: «لا أظن أنه كان له دخل كبير بالأمر، أكثر من كونه «مستعدًّا للزواج» مثل شخصية السيد باركس في رواية «ديفيد كوبرفيلد». إن قصة زواجهما عجيبة حقًّا، وبعض الناس جاهروا بأنهم لا يصدقونها، لكن مَن يعرفون الكونتيسة حق المعرفة يؤمنون قطعًا بصحتها؛ لأنها تتفق كثيرًا مع شخصيتها. فضلًا عن أني أعرف يقينًا أنها حقيقية.»

قلت: «أود أن أسمعها.»

أشعل الطبيب سيجارًا جديدًا ثم دفع علبة السيجار نحوي قائلًا: «سوف أحكيها لك.»

•••

«لك أن تتصوَّر أن اللورد الشاب صار فجأة مُولَعًا بنبيذ شيري المُصفَّى الذي يُباع الكأس منه بستة بنسات، وبالخبز المحشو بالكشمش الذي اعتدنا تناوُله في طفولتنا. كان يتناول طعام الغداء في مخبز سويل، ويحتسي الشاي في مخبز سويل، بل كان يتعشَّى هناك في بعض الأحيان، مُتناوِلًا طبقًا من شرائح اللحم متبوعًا بتشكيلة من المعجنات. بدأ يغازل ماري تحت اسم مستعار، خوفًا، على الأرجح، من أن تسمع أمه عن علاقته بها، فهو لم يكن رجلًا مُحنَّكًا أو لئيمًا؛ ودواعي الأمانة تحتم عليَّ ذكر أن الفتاة أحبَّته ووافقَت على الزواج منه بصفته السيد جون روبنسون، ابن تاجر يعمل بإحدى المستعمرات، ولم يفُتها ملاحظة أنه سيد مهذَّب وموسر، لكنه لا يعلوها كثيرًا من حيث المكانة الاجتماعية. ولم تعرف أن حبيبها هو اللورد سي نفسه، إيرل مقاطعة … المستقبلي، إلا عندما كشفَت لها أمه عن تلك الحقيقة في محادثة أليمة جرَت بينهما.»

وقفت ماري بجوار نافذة حجرة الجلوس أعلى المتجر وقالت للكونتيسة الأم بنبرة جازمة: «لم أكُن أعلم بذلك قط يا سيدتي، أقسم لك بشرفي أنني لم أدرِ شيئًا عن هذا الأمر.»

ردَّت السيدة النبيلة ببرود: «ربما لم تعرفي حقًّا. لكن هل كنتِ سترفضينه إن عرفتِ هُويَّته الحقيقية؟»

ردَّت الفتاة: «لا أعرف يقينًا، كان الوضع سيختلف منذ البداية. هو مَن تودَّد إليَّ وطلب الزواج مني.»

قاطعتها الكونتيسة قائلة: «لن نخوض في تلك المسألة. أنا لم آتِ هنا كي أدافع عنه. ولا أزعم أنه أحسنَ التصرُّف. السؤال الأهم هو: ما التعويض المناسب عمَّا شعرتِ به من خيبة أمل حتمًا؟»

كانت السيدة النبيلة تعتز بصراحتها الفظَّة وطابعها العملي. وبينما تخاطب الفتاة أخرجت دفتر الشيكات من حقيبتها الصغيرة وفتحته وهي تبلِّل طرف القلم في زجاجة الحبر. وأظن أن رفيف صفحات دفتر الشيكات كان الخطأ الذي ارتكبته هذه السيدة. فالفتاة كانت تدرك الموقف جيدًا، ولا بد أنها استوعبت الصعوبات التي تكتنف زواج وريث لقب إيرل بابنة تاجر أقمشة، ولو كانت السيدة العجوز امرأة فطِنة فربما تمخَّضَت هذه المحادثة عن نتيجة مُرضِية لها. لكنها ارتكبت خطأً عندما تبنَّت معيارًا واحدًا للحكم على الناس جميعًا، ونسيت أن ثمَّة فروقًا بين الناس. إذ إن ماري سويل تنحدر من نسل أسلاف من غرب إنجلترا قدَّمَت عدة قراصنة أقوياء البنية في سبيل خدمة البلاد في زمن المستكشفين الإنجليز مثل السير دريك والسير فروبيشير. وقد أدَّت الإهانة الناجمة عن إخراج السيدة النبيلة لدفتر الشيكات بهذه الطريقة إلى إيقاظ روح التحدي بداخلها. أطبقت شفتَيها فجأةً، وتبدَّد الخوف من نفسها.

ثم ردَّت قائلةً: «معذرة يا سيدتي، لا يمكنني تلبية طلبك.»

سألت الكونتيسة الأم: «ماذا تقصدين، أيتها الفتاة؟»

ردَّت ماري بهدوء واحترام: «لا أنوي أن يخيب أملي. لقد تبادلنا وعود الزواج. وإذا كان سيدًا نبيلًا حقًّا، كما عرفتُه، فسوف يحافظ على وعده لي، وسوف أفي بوعدي له.»

عندئذٍ بدأت السيدة النبيلة تُحادثها بالمنطق، مثلما يفعل الناس عادةً بعد فوات الأوان. أشارت إلى اختلاف المستوى الاجتماعي بينهما، ووضَّحَت لها المآسي التي تترتَّب على زواج المرء من خارج طبقته الاجتماعية. لكن الفتاة كانت قد تجاوزت صدمتها الأولية، وربما بدأت تفكر في أن لقب كونتيسة يستحق النضال لأجله على أي حال. وهذه الاعتبارات تؤثِّر حتى في أفضل النساء.

•••

ردَّت عليها ماري بهدوء: «أعرف أنني لست من النبلاء. لكن أهلي طالما كانوا أناسًا شرفاء ومعروفين، وسوف أسعى لتعلُّم آداب الطبقة الأرستقراطية. قبل أن أشغل هذه الوظيفة، عملت وصيفة لسيدة نبيلة في بيت شهدت فيه الكثير من مظاهر ما يُعرف بالمجتمع الراقي. ولا أقصد ازدراء مَن يعلونني مقامًا، لكني أعتقد أن بوسعي أن أكون سيدة نبيلة مثل بعضٍ ممَّن عرفتُ من سيدات المجتمع الراقي، بل قد أتفوَّق عليهن.»

عاود الغضب الكونتيسة، فصاحت بها: «ومَن سيقبل بكِ في ظنك؟ مَن سيرحب بفتاة كانت تعمل في متجر حلوى؟!»

ردَّت ماري: «أعرف أن السيدة إل كانت تعمل في حانة قبل زواجها، أي إن وضعها لم يكن أفضل من وضعي. وسمعت أن الدوقة سي كانت راقصة باليه، ولا أحد يتذكَّر ماضيهما على ما يبدو. لا أظن كذلك أن الأشخاص الذين يهم رأيهم سوف يعترضون عليَّ لوقت طويل.» كانت الفتاة قد بدأت تستمتع بالمبارزة الكلامية بينهما.

صاحت الكونتيسة ثائرةً: «أنتِ تدَّعين أنكِ تحبين ابني، ومع ذلك تنوين أن تدمري حياته، وأن تجُرِّيه معكِ إلى الأسفل؛ إلى مستواكِ.»

لا بد أن الفتاة بدَت جذابة حقًّا في تلك اللحظة؛ كم أود لو كنت حاضرًا وقتها.

ردَّت ماري: «لن يُجرَّ أحد إلى الأسفل يا سيدتي، لا أنا ولا هو. أنا أحب ابنك حقًّا. إنه من أفضل الرجال النبلاء وأطيبهم قلبًا. لكني لست غافلة عن كوني الطرف الأذكى في تلك العلاقة. سيصير شغلي الشاغل أن أهيئ نفسي لأكون زوجته وأن أساعده في عمله. لا تقلقي يا سيدتي، سأكون زوجة صالحة له، ولن يندم أبدًا على زواجه مني. قد تختارين له زوجة أكثر ثراءً أو أفضل تعليمًا، لكنك لن تجدي أبدًا زوجة أكثر إخلاصًا له مني والتزامًا بمراعاة مصالحه.»

عند هذا الحد، انتهى النقاش بينهما. كانت الكونتيسة تتمتَّع بما يكفي من الحصافة كي تلاحظ أنها تخسر عبر مواصلة الجدال. ومن ثَم نهضت وأعادت دفتر الشيكات إلى حقيبتها.

ثم قالت: «أظن أنكِ مجنونة يا عزيزتي. إذا لم تقبلي أي مساعدة مني، فسوف أعدُّ المسألة منتهية. لم آتِ هنا كي أتجادل معك. إن ابني يعرف واجبه تجاهي وتجاه عائلته خير معرفة. فلتفعل كلٌّ منا ما تراه مناسبًا.»

قالت ماري سويل وهي تمسك باب الغرفة ريثما تخرج السيدة النبيلة: «حسنًا يا سيدتي. سنرى مَن منا سيفوز.»

وعلى الرغم مما أبدته ماري من شجاعة أمام غريمتها، أتوقَّع أنها شعرت بإنهاك بالغ عندما تدبَّرَت الأمر بهدوء بعد انصراف الكونتيسة. فهي تعرف حبيبها جيدًا وتتوقَّع أنه سيكون مثل العجين بين يدَي أمه القويتين، وسوف تعجز هي عن فرض تأثيرها في مواجهة تأثير أولئك الساعين إلى إبعاده عنها. عاودت قراءة الخطابات القليلة الساذجة التي بعثها إليها، ثم تطلَّعَت إلى الصورة المؤطرة التي تعلو رف المدفأة في غرفتها الصغيرة. كانت تجسد وجهًا صريحًا جذابًا لرجل شاب، يتميز بعينَين أوسَع من عيون الرجال عادةً، لكنَّ فمًا رخوًا جدًّا أفسد جاذبيته. وكلما أمعنت ماري سويل التفكير، زاد يقينها من حبه لها، ومن صدق وعده بالزواج منها. ولو كان القرار بيده، لصار لقب الكونتيسة القادمة لمقاطعة … من نصيبها، لكن، لسوء حظها، ليس اللورد سي مَن عليها مواجهته بل أمه، الكونتيسة الحالية للمقاطعة. لم يخطر على بال اللورد سي قطُّ أن يعصي أمرًا واحدًا لأمه منذ طفولته، وطوال صباه، وحتى صار رجلًا، ولم يكن عقله من النوع المنفتح على الأفكار الجديدة. لذلك إذا أرادت ماري الفوز في تلك المنافسة غير المتكافئة، فعليها أن تلجأ إلى الحيلة لا إلى القوة. وهكذا جلست وكتبت خطابًا يُعَد بلا شك مثالًا يُحتذى به في الدبلوماسية. كانت تعلم أن الكونتيسة ستقرؤه، ومن ثَم راعت أثناء كتابته مخاطبة كلٍّ من الابن والأم. لم توجِّه أي لوم، ولم تُفرِط في التعبير العاطفي. كان خطابها يعبِّر عن امرأة صاحبة حق لكنها لا تطالب سوى بمعاملة لائقة. ذكرت رغبتها في أن تراه وحده كي يؤكد لها بنفسه أنه يرغب في إنهاء خطبتهما. كتبت ماري: «لا تخشَ أن أثقل عليك بأي حال من الأحوال. فكبريائي سيمنعني من الإلحاح عليك كي تتزوَّجني رغمًا عن إرادتك، وما أكنُّه لك من حب يمنعني من أن أسبِّب لك الألم. قل لي بنفسك إنك ترغب في إنهاء خطبتنا، وسوف أحرِّرك من وعدك لي فورًا.»

كانت العائلة في لندن وقتها، فأرسلت ماري خطابها عَبْر وسيط موثوق به. شعرت الكونتيسة برضًا بالغ عند قراءته، وأعطَتْه لابنها بنفسها، بعدما أعادت إغلاقه. فقد رأت أن الخطاب يطرح حلًّا مُرضيًا للمشكلة، بعدما قضت الليل بأكمله تستمع في خيالها إلى وقائع قضية حنث بالوعد١ تشوِّه سمعة العائلة. بل تخيَّلَت أنها تخضع لاستجواب مزعج على يد محامٍ وقِح، وأن القاضي أساء فهم انتحال ابنها لاسم روبنسون ووبَّخَه على ذلك أشد توبيخ، وأن هيئة المحلفين تعاطفت مع الفتاة وحكمت عليهم بدفع تعويضات فادحة، وأن اسم العائلة صار محطَّ تهكُّم الصحفيين الساخرين والمطربين في قاعات الموسيقى الراقصة. قرأ اللورد سي الخطاب، واحمرَّ وجهه، ثم ناول أمه إياه. تظاهرت الكونتيسة بأنها تقرؤه للمرة الأولى ونصحت ابنها بالموافقة على اللقاء.

قالت: «يسعدني أن تلك الفتاة بدأت تفكر في الأمر بتعقُّل. لا بد أن نساعدها بطريقة ما تدعم مستقبلها، عندما ننتهي من تلك المسألة. أخبرها أن تطلب ملاقاتي حين تأتي، وسوف يظن الخدم أنها جاءت للعمل وصيفة لي أو ما شابه، ولن يتحدثوا عن الأمر.»

وفي تلك الأمسية، أبلغ رئيس الخدم الكونتيسة أن امرأة شابة تريد رؤيتها، ثم قاد ماري سويل إلى غرفة الجلوس الصغيرة التي تصل المكتبة بباقي غرف الاستقبال في البيت الواقع بميدان جروسفينور سكوير. نهضت الكونتيسة، التي أضحت تقطر ودًّا، لملاقاة ماري. وقالت: «سيأتي ابني حالًا. لقد أبلغني بفحوى خطابك. صدِّقيني يا آنسة سويل، لن تجدي مَن هو أشد أسفًا مني حيال تصرُّفه الطائش. لكن هذا طابع الشباب، هم لا يتمهَّلون كي يدركوا أن ما يرونه مزاحًا قد يراه الآخرون جدًّا.»

ردَّت ماري بقدر من الاقتضاب: «لا أرى المسألة مزحة يا سيدتي.»

علَّقَت الكونتيسة: «بالطبع يا عزيزتي. هذا ما أقصده. لقد ارتكب خطأً فادحًا. لكني على يقين من أن امرأة جميلة المحيا مثلك لن تنتظر طويلًا حتى تجد زوجًا؛ وسوف نساعدك حتمًا في هذا الأمر.»

كانت الكونتيسة تعوزها اللباقة دون شك؛ ولا بد أن ذلك قد عاق جهودها إلى حدٍّ بعيد.

أجابتها الفتاة: «أشكرك. لكني أفضِّل أن أختار زوجي بنفسي.» ولحُسن الحظ، دخل في تلك اللحظة سبب المتاعب كلها، ولو تأخَّر قليلًا لكان الحوار بين المرأتَين انتهى إلى شجار آخر، وعندئذٍ تركتهما الكونتيسة معًا بعدما همست في أذن ابنها ببضعة توجيهات أخيرة.

جلست ماري على كرسي في المركز، يبعد مسافة متساوية عن كلا بابَي الغرفة. وفضَّل اللورد سي الوقوف مُعطيًا ظهره إلى المدفأة بما أن جميع المقاعد بدَت له غير مريحة في موقف كهذا. ساد الغرفة صمت مُطبِق لبضع ثوانٍ، ثم سحبت ماري منديلًا بالغ الأناقة من جيبها وشرعت تبكي. من المؤكد أن الكونتيسة لم تتمتَّع ببراعة دبلوماسية كبيرة، وإلا لكانت فكَّرَت في هذا السيناريو؛ أو ربما تذكَّرَت شكلها أثناء شبابها، وقد كانت فتاة طويلة بارزة العظام، عندما حاولت استغلال التأثير الملطف للدموع مرَّة أو مرَّتَين، ومن ثَم لم تعطِ أهمية كبيرة لاحتمالية لجوء ماري لسلاح البكاء. لكن عندما تبكي النساء الناعمات ذوات الغمازات، ويبكين بصمت، يكون تأثير بكائهن مختلفًا تمامًا. تزداد أعينهن تألُّقًا، وتتناثر دموعهن القليلة على خدودهن مثل قطرات الندى على بتلات الورد.

كان اللورد سي رجلًا أخرق لا مثيل لطيبة قلبه. وفي اللحظة التالية، كان جاثيًا على ركبتَيه، وذراعاه حول وسط الفتاة، ومن فمه تدافعت كلمات متلعثمة تعبِّر عن حبه وإخلاصه بقَدْر ما أسعفه ذهنه البسيط، وأخذ يلعن قدره ولقب الإيرل وأمه، ثم شرع يؤكد لماري أنه لن يعرف السعادة إلا إذا أضحت زوجته. لو نطقت ماري بالكلمة التي يتمنى سماعها في تلك اللحظة، كان سيضمُّها بين ذراعَيه ويتحدى العالم كله؛ في الوقت الحالي فقط. لكن ماري كانت امرأة عملية حقًّا، وكانت تدرك صعوبات التعامل مع عاشق يكون طوع أمرها طالما ظلَّت عيناها عليه، بَيْد أنه عرضة لأن يحيد عن هدفه ما إن يخضع لتأثير غيرها. اقترح اللورد سي أن يتزوَّجا سرًّا حالًا. لكن المرء لا يركض هكذا في الشارع، ويطرق باب أي قسيس كي يزوِّجه فورًا، وكانت ماري على يقين من أن اللورد سيرجع إلى حضن أمه حالما تغادر المنزل. اقترح عليها أيضًا أن يهربا معًا، لكن الهرب يتطلَّب مالًا، والكونتيسة احتاطت لذلك عَبْر فرض سيطرتها على ما يُتاح له من مال. ومن ثَم تملَّك اليأس من اللورد سي.

فهتف: «لا فائدة. سوف أتزوَّجها في آخر المطاف.»

صاحت ماري سريعًا: «تتزوَّج مَن؟»

شرع اللورد في توضيح موقفه لها. كانت ممتلكات العائلة مُثقَلة بالرهون؛ لذا ارتأى الجميع أن زواجًا يضع المال في المقام الأول والأخير سيكون الأنسَب له، وقد عُرض هذا المال نفسه، أو تم عرضه بالأحرى، عَبْر مقترح الزواج من الابنة الوحيدة لمتسلق اجتماعي ثري وطموح.

سألت ماري: «كيف تبدو؟»

أجابها: «فتاة لطيفة. لكني لا أحبها وهي أيضًا لا تحبني. ولهذا لا يحبِّذ كلانا ذلك الزواج.» ثم ضحك مبتئسًا.

سألته ماري: «كيف عرفت أنها لا تحبك؟» فالمرأة قد تنتقد عيوب حبيبها، لكنها تعرف على الأقل أن أي امرأة أخرى قد تراه مقبولًا.

أجابها اللورد: «إنها تحب رجلًا آخر. لقد أخبرتني بذلك بنفسها.»

بدا لماري أن هذا السبب مُقنِع.

سألَتْه: «وهل هي مستعدة للزواج منك؟»

هزَّ اللورد كتفَيه بعدم اكتراث وأجابها: «أهلها يرغبون في إتمام الزواج، هذا كل ما في الأمر.»

على الرغم من صعوبة الموقف، عجزت ماري عن كتم ضحكة. هؤلاء الشباب الأثرياء معدومو الإرادة على ما يبدو. وعلى الجانب الآخر من الباب، زاد قلق الكونتيسة. كانت ضحكة ماري هي الصوت الوحيد الذي سمعته.

وضَّح اللورد الأمرَ لماري قائلًا: «إنها ورطة لَعِينة. فكما تعلمين، عندما يكون المرء شخصًا ذا شأن، لا يستطيع التصرُّف كما يحلو له. بل يتوقَّع الناس منه أمورًا معيَّنة، وعليه مراعاة الكثير من الاعتبارات.»

نهضت ماري وشبَّكَت يدَيها البضَّتَين — التي نزعت عنهما القفازَين — خلف عنقه.

ثم قالت متطلِّعةً إلى وجهه: «هل تحبني يا جاك؟»

ردَّ بضمِّها إليه بقوة، واغرورقت عيناه بالدموع.

ثم صاح قائلًا: «اسمعي يا ماري. لو كان بوسعي التخلُّص من لقبي، والعيش معك كرجل محترم في الريف، كنت سأفعل ذلك غدًا. تبًّا لهذا اللقب، سوف يقلب حياتي جحيمًا.»

ربما ودَّت ماري في تلك اللحظة أيضًا لو يختفي هذا اللقب من الوجود، وتمنَّت لو كان حبيبها هو السيد جون روبنسون مثلما ظنَّت قبلًا. إن هؤلاء الرجال الحمقى الضخام الجثة يسهل حبهم على الرغم من ضعفهم، أو ربما بسبب ضعفهم. فهم يروقون الجانب الأمومي في قلب المرأة، الذي له التأثير الأعظم على جميع النساء الصالحات.

وفجأةً انفتح الباب، وظهرت الكونتيسة، فتبدَّدَت المشاعر فورًا. أفلت اللورد سي ماري وتراجع سريعًا، وبدا الذنب على وجهه مثل تلميذ ارتكب خطأً.

قالت السيدة النبيلة بنبرة باردة طالما جمدت الدماء في عروق ابنها: «ظننتُ أني سمعت الآنسة سويل تغادر. رغبت في رؤيتك بعدما صِرتَ حرًّا.»

رد اللورد متلعثمًا: «لن أتأخر. إن ماري، أقصد الآنسة سويل، أوشكت على المغادرة.»

انتظرت ماري دون حراك حتى غادرت الكونتيسة الغرفة وأغلقت الباب خلفها. ثم التفتَت إلى حبيبها وهمست له سريعًا قائلةً: «أعطِني عنوانها؛ عنوان تلك الفتاة التي يريدون أن تتزوَّجها!»

سألها اللورد: «ماذا ستفعلين؟»

أجابت ماري: «لا أعرف، لكني سأذهب لزيارتها.»

خطَّت اسم الفتاة سريعًا، ثم قالت وهي تتطلَّع إلى وجهه مباشرةً: «جاك، قل لي صراحةً هل ترغب في الزواج مني أم لا؟»

أجابها، بينما كان ما عبَّرَت عنه عيناه أقوى من كلماته: «بالطبع أرغب في الزواج منكِ يا ماري. لو لم أكُن شابًّا أحمق وتافهًا، لَما واجهنا كل هذه المتاعب. لكني لا أدري كيف حدث ما حدث؛ فأنا أحدِّث نفسي بأني فاعل أمرًا ما، لكن أمي تظل تتحدَّث وتتحدَّث …»

قاطعته ماري مبتسمةً: «أعرف، لا تجادلها، تقبَّل جميع آرائها، وتظاهَرْ بأنك تتفق معها.»

قال اللورد متشبِّثًا بالأمل الذي يتخلَّل كلماتها: «ليتكِ تستطيعين وضع خطة لنجدتنا، فأنتِ ذكية جدًّا.»

أجابته ماري: «سأحاول، وإن فشلت، سوف تضطر إلى الهرب معي، حتى إن فعلت ذلك أمام عينَي أمك.»

كانت تقصد «سوف أضطر إلى الهرب معك»، لكنها فضلت قلب العبارة على هذا النحو.

ذهبت ماري لزيارة الفتاة التي صارت، رغمًا عن إرادتها، غريمة لها، فوجدتها شابة وديعة، ترزح تحت سيطرة أبيها الصلف مثلما يخضع اللورد سي لهيمنة أمه. لا أعرف يقينًا ما دار بينهما في هذا اللقاء؛ لكن من المؤكَّد أن كلتا الفتاتَين قرَّرَتا مساعدة — ودعم — بعضهما بعضًا، من أجل تحقيق أهدافهما معًا.

فوجئ والدا كلٍّ من الآنسة كليمينتينا هودزكس واللورد سي، وسُرُّوا عندما لاحظوا تغيُّرًا في سلوك الخطيبَين بعضهما تجاه بعض مقارنة بذي قبل. فلم تعُد الفتاة تعترض على كل ما يُبديه اللورد سي، رغمًا عنه، من اهتمام بها. ويبدو حقًّا أن نزوات النساء سريعة الزوال؛ إذ صارت الآنسة هودزكس تشجِّع اللورد سي على زيارتها، لا سيما عندما يغيب السيد هودزكس وحرمه عن المنزل. أما المشاعر الوليدة التي أبداها اللورد سي نحو الآنسة كليمينتينا هودزكس فلم تكُن أقل إثارة للدهشة. لم يعُد يذكر اسم ماري مطلقًا، ولم يُبدِ اعتراضًا على اقتراح التعجيل بالزواج. ربما حيَّر هذا التغيير أناسًا أكثر حكمة، لكن الكونتيسة والمقاول السابق هودزكس كانا معتادَين على أن يُذعن الجميع لرغباتهما. بدأت الكونتيسة تتخيَّل الضيعة بعد انتشالها من الديون، في حين كان والد كليمينتينا يحلم بلقب نبيل، يُمنح له بفضل علاقاته المؤثرة بالطبقة الأرستقراطية. كل ما اشترطه العروسان هو أن يُعقَد قرانهما في مراسم هادئة تكاد تكون سرية (وقد أبديا إصرارًا عجيبًا على موقفهما هذا).

طلب اللورد من أمه أن يُعقَد الزفاف «دون ضجة بغيضة، ليكنْ في مكان ما بالريف، ولا تدعوا عموم الناس»، وكان رد فعلها أن ربتت بحبٍّ على خده؛ إذ ظنَّت أنها تتفهَّم سبب رغبته تلك.

وحدَّثَت الآنسة هودزكس والدها قائلةً: «أرغب في الذهاب إلى بيت العمة جين، وإقامة الزفاف هناك في هدوء.»

كانت العمة جين تقطن في قرية صغيرة على حدود مقاطعة هامبشير، تابعة لقس معروف في المنطقة بأنه فقد جميع أسنانه العليا.

صاح أبوها بنبرة هادرة: «لا يمكن أن يعقد هذا العجوز الأحمق مراسم زفافك.» كان أبوها يصيح دائمًا، حتى في صلواته.

ألحَّت الآنسة كليمينتينا على مطلبها بقولها: «إنه القس الذي عمدني.»

رد الأب: «والله وحده يعلم الاسم الذي منحك إياه وقتها. لا أحد يفهم كلمة ممَّا يقوله هذا الرجل.»

رددت الآنسة كليمينتينا مجددًا: «أرغب في أن يعقد هو مراسم زواجي.»

لم ترُق الفكرة الكونتيسة النبيلة والمقاول على حدٍّ سواء، لا سيما أن الأخير كان يتطلَّع إلى إقامة حفل ضخم تكتب عنه جميع الصحف تفصيلًا.

لكن الزواج في حد ذاته كان الهدف الأسمى، ونظرًا إلى ما جرى بين كليمينتينا وملازم بحرية معدم من غراميات حمقاء، ربما تكون مظاهر الأبَّهة خيارًا غير مناسب.

ومن ثَم ارتحلت كليمينتينا إلى بيت العمة جين بصحبة وصيفتها في الوقت المناسب.

كانت الوصيفة الجديدة للآنسة هودزكس فتاة مذهلة في كفاءتها.

وصفها السيد هودزكس قائلًا: «فتاة نظيفة حسنة الخلقة والخُلق، تعرف مقامها، وتتحدَّث بتعقُّل. لا تفرِّطي في هذه الفتاة يا كليمي.»

سألت السيدة هودزكس في تشكُّك: «هل تظنُّ أنها تتمتَّع بمعرفة جيدة في مجالها؟»

رد المقاول محتدًّا: «إنها تصلح وصيفة لأي امرأة محترمة. عندما تحتاج كليمي إلى مَن يلطِّخ وجهها بالأصباغ ويساعدها على حشو ملابسها بطبقات إضافية، يمكنها أن تفكر حينها في جلب واحدة من وصيفاتك الفرنسيات أو الألمانيات.»

وافقته الأم قائلة: «إنها تروقني كثيرًا. فهي أهلٌ للثقة، ولا تتصرَّفُ بتعالٍ.»

بلغ الثناء على الوصيفة مسامع الكونتيسة التي كانت تعاني بشدة وقتها من جبروت وصيفة ألمانية متقدِّمة في العمر.

فكرت الكونتيسة: «لا بد أن أرى هذه الوصيفة المذهلة. لقد تعبتُ من أولئك الوصيفات الأجنبيات.»

رغم ذلك، كلما زارتهم الكونتيسة، كانت دائمًا ما تجد الوصيفة خارج المنزل لسبب أو لآخر، مهما تحيَّنَت ساعة الزيارة.

حدَّثَت الكونتيسة كليمينتينا ضاحكةً: «إن وصيفتك تكون دومًا خارج المنزل عندما آتي لزيارتكم. يُخيَّل إليَّ أن سببًا ما يدفعها لذلك.»

وافقتها كليمينتينا: «أمر غريب فعلًا»، وعلَت وجهها حمرة خفيفة.

كان تقدير الآنسة هودزكس لوصيفتها ينعكس في أفعالها أكثر من كلماتها. إذ بدَت عاجزة عن الإتيان بأي فعل أو تدبُّر أي أمر دون مساعدتها. وحتى في لقاءاتها مع اللورد سي، كانت الوصيفة حاضرة في بعض الأحيان.

تقرَّر أن يُعقد القران بنظام رخصة الزواج.٢ وعزمت الآنسة هودزكس في البداية على الذهاب بنفسها وإتمام التحضيرات، لكن عندما حان الوقت لذلك لم تجِد داعيًا إلى تجشُّم العناء؛ فالحصول على الرخصة كان في غاية البساطة، واتضح أن الوصيفة المذهلة تستوعب الإجراءات بدقة بالغة، ولديها استعداد لأن تحمل على عاتقها عبء إنجاز تلك المهام كلها. وهكذا، لم تأتِ عائلة هودزكس كاملةً إلى القرية إلا ليلة الزفاف، واحتشدوا جميعًا في منزل العمة جين الصغير حتى لم يعُد به موضع لقدم. وكان منظر المقاول، بجسده الضخم، وهو واقف بجوار شرفة المنزل الصغيرة يدفع المارِّين تلقائيًّا إلى تذكُّر بيوت الدمى التي تُعرَض في المهرجانات الشعبية الترفيهية، ويكون قاطنها قزمًا يمد جسده من نافذة الطابق الأول كي يقرع جرس البيت بنفسه. أقام اللورد سي والكونتيسة لدى أخت الكونتيسة، السيدة الموقَّرة جيه، في منزل جي … هول على بُعد عشرة أميال من القرية، وعزما على الذهاب صباحًا بالسيارة إلى هناك. أما والد العريس، إيرل مقاطعة … وقتها، فكان في النرويج يصطاد أسماك السالمون، فلم يكن يهتم بالأحداث العائلية.

شكَت كليمينتينا من صداعٍ أصابها بعد العشاء، وخلدت إلى النوم مبكِّرًا. كانت الوصيفة المذهلة هي الأخرى متوعكة. وبدا عليها القلق والحماس.

علَّقَت السيدة هودزكس على ذلك بقولها: «تلك الفتاة متحمِّسة للزواج وكأنه زواجها هي.»

وفي الصباح، كانت كليمينتينا لا تزال تعاني من الصداع، لكنها أكَّدَت أنها قادرة على خوض مراسم الزفاف، شريطة أن يبتعد الجميع عنها ولا يزعجوها. كانت الوصيفة المذهلة هي الإنسانة الوحيدة التي احتملت وجودها بجوارها. وقبل نصف ساعة من موعد الذهاب إلى الكنيسة، صعدت أمها للاطمئنان عليها مجدَّدًا. فوجدتها ازدادت شحوبًا عن ذي قبل، وصارت أشد توتُّرًا وعصبية. هدَّدَت العروس أمها بأنها سترقد في السرير ولن تتحرَّك منه إذا لم يتركوها وحدها. ثم أخرجت أمها من الغرفة، أو طردتها بالأحرى، وأغلقت الباب خلفها. لم ترَ السيدة هودزكس ابنتها في هذه الحالة من قبل.

غادر الجميع متجهين إلى الكنيسة، وتقرر أن تتبعهم العروس في العربة الأخيرة بصحبة أبيها.

سبق تحذير المقاول من حالة العروس، فأوجز حديثه معها، وعندما اضطر مرة واحدة إلى طرح سؤال عليها، أجابته بصوت متوتر غير طبيعي. وبقدر ما استطاع رؤية وجهها من وراء الخمار الثقيل الذي يغطِّيه، بدا له أنها تبكي.

قال السيد هودزكس: «حقًّا، يا له من زفاف بهيج!» ثم عاد متجهِّمًا.

لم يكن الزفاف هادئًا مثلما توقَّعوا. فقد بلغ خبره مسامع أهل القرية؛ لذا حضر كثيرٌ منهم إلى الكنيسة، فضلًا عن أن نصف الضيوف المقيمين في منزل جي … هول أصروا على القدوم إلى الكنيسة وحضور المراسم. وهكذا امتلأت الكنيسة الصغيرة بعددٍ من الناس لم تشهد مثله منذ سنوات طويلة.

فزع القس العجوز لمرأى هذا الحشد الأنيق، فهو لم يعتد رؤية وجوه غريبة منذ زمن، وفزع الحشد الأنيق بدوره ما إن سمع أول صوت خرج من فم القس العجوز. فما كان لديه من قدرة ضئيلة على التعبير تبخر كليًّا، ولم يستطع أحد فهم كلمة مما يقول. بدا أنه يُصدِر أصوات استغاثة. اضطر والدا العروس إلى شرح مِحنة القس في أحاديث جانبية خفيضة، واضطرَّا كذلك إلى تبرير اختيار هذا القس بالذات لعقد مراسم الزواج.

همست أم العروس: «كانت نزوة من نزوات كليمينتينا. أنا ووالدها تزوَّجنا هنا، وهذا القس هو مَن عمَّدَها. إن ابنتي العزيزة تشعر بامتنان بالغ نحوه. واختياره كان لَفْتة لطيفة من جانبها.»

وافقها الجميع على رأيها، بَيْد أنهم تمنوا انتهاء المراسم سريعًا. كان التأثير العام للحدث من أغرب ما يكون.

تحدَّث اللورد سي بوضوح معقول، لكن إجابات العروس كانت مُبهَمة إلى حدٍّ بعيد، على عكس المعتاد في تلك المواقف. تذكر الحضور قصة العروس مع ملازم البحرية، وأضافوا إليها أحداثًا من خيالهم، وشرعت بعض النساء المرهفات المشاعر في البكاء تعاطُفًا مع الفتاة.

في الغرفة الداخلية بالكنيسة شاعت أجواء أكثر بهجة. فلم يوجد نقص في عدد الشهود المُرحبين بالتوقيع على سجل توثيق الزواج. وقد دوَّنوا أسماءهم دون أن يقرءوا ما ورد بالوثيقة، مثلما يفعل أغلب الناس في تلك المواقف، في المواضع التي أشار إليها الشماس. ثم خطر لأحد الشهود أن العروس لم توقِّع بعد. كانت تقف بعيدًا عنهم، وخمارها لا يزال يغطِّي وجهها، وبدا أن الجميع نسوها. تقدمت العروس في وداعة مصحوبة بعبارات التشجيع، وتناولت القلم من يد الشماس. ثم جاءت الكونتيسة ووقفت وراءها.

كتبت العروس: «ماري» بيدٍ كان يعوزها الثبات على الرغم من أن شكلها لم يوحِ بذلك.

قالت الكونتيسة: «غريبة، لم أعرف أن اسمك الكامل يبدأ بماري. كم يبدو خطك مختلفًا عندما تكتبين ببطء.»

لم تُجِب العروس، بل أتبعت الاسم الأول باسم «سوزانا».

صاحت الكونتيسة: «عجبًا، ما أكثر ما تحملين من أسماء يا عزيزتي! متى سيأتي الدور على الأسماء التي نعرفها جميعًا؟»

كتبت العروس دون أن تجيب: «روث».

يجدر بي أن أقول هنا إن حُسن التربية والتهذيب لا يقيان المرء دائمًا من الانفعالات الجياشة. فقد انتزعت الكونتيسة خمار العروس من فوق وجه الأخيرة، ووجدت نفسها تقف أمام ماري سوزانا روث سويل، التي احمرَّ وجهها وارتعش جسدها بيد أن جمالها لم يقلَّ أنملة. وفي هذه اللحظة كان وجود حشد من الناس أمرًا مفيدًا.

قالت ماري بصوت خفيض: «لا أظنك ترغبين في إحداث جلبة يا سيدتي. ما حدث قد حدث.»

ردَّت الكونتيسة محتدَّةً بالنبرة نفسها: «ما حدث يمكن إلغاؤه، وسوف يُلغى، أيتها الفتاة …»

تدخَّل اللورد سي بينهما وقال وهو يضع يد ماري على ذراعه: «تلك الفتاة صارت زوجتي، لا تنسي ذلك يا أمي. نحن آسِفان لأننا اضطررنا إلى إتمام الزواج بهذا الأسلوب الملتف، لكننا أردنا تجنُّب إثارة الضجة. أظن أن علينا الرحيل الآن. أخشى أن السيد هودزكس سيُثير جلبة.»

•••

صبَّ الطبيب لنفسه كأسًا من النبيذ الأحمر، وشربه كله. لا بد أن حلقه قد جفَّ.

سألته: «وماذا حلَّ بكليمينتينا؟ هل هرع ملازم البحرية إليها في عربة بحصانَين، وحملها معه بينما الآخرون في الكنيسة؟»

رد الطبيب: «هذا ما كان يجب أن يقع، كي تكتمل القصة. بَيْد أنني عرفت أنها تزوَّجَته بالفعل في آخر المطاف، لكن بعدما مرَّت عدة سنوات، بعد موت المقاول.»

تابعت أسئلتي: «وهل أثار السيد هودزكس جلبة في غرفة الكنيسة؟»، فهذا الطبيب لا يكمل قصصه أبدًا.

أجاب مضيفي: «لا أعلم يقينًا. رأيت هذا الرجل مرَّة واحدةً، في اجتماع لحملة أسهم. وأميل إلى الرأي القائل بأنه لم يسكت.»

قلت: «أظن أن العريس والعروس انسلَّا بأكبر قدر ممكن من الهدوء، وغادرا الكنيسة مباشرةً.»

وافقني الطبيب قائلًا: «أتصوَّر أن هذا كان التصرُّف الحصيف.»

سألته مجددًا: «لكن كيف تمكَّنَت ماري من ارتداء ملابس تصلح للسفر؟ لم يُتَح لها وقت كي ترجع إلى منزل العمة جين وتغيِّر ملابسها.»

لم يبدُ الطبيب مهتمًّا بهذه التفاصيل الدقيقة؛ إذ رد قائلًا: «ليس لديَّ علم بتلك الأمور. قلت لك إن ماري فتاة عملية، من المرجَّح أنها فكَّرَت في تلك التفاصيل.»

سألته: «وماذا عن الكونتيسة؟ هل تقبَّلَت الأمر بهدوء.»

فأنا أحب القصص الخالية من الثغرات، حيث تُوضع كل شخصية في مكانها الصحيح في النهاية. بيد أن القصص الرومانسية الحديثة عادةً ما تنتهي تاركةً نصف شخصياتها مُبعثَرة في كل مكان.

أجاب الطبيب: «ليس لديَّ علم يقيني بهذه المسألة أيضًا، لكني أعتقد أنها امرأة عاقلة. فاللورد سي كان قد بلغ سن الرشد، وصار يعرف ما يريد، لا سيما وماري إلى جواره. أظن أنهما سافرا لسنتَين أو ثلاث سنوات. وقد رأيت الكونتيسة ماري لأول مرة في حياتي بعد وفاة الإيرل والد اللورد سي بفترة قصيرة. بدَت لي وقتها كونتيسة حقيقية بكل ما تعنيه الكلمة، لكني لم أكُن قد سمعت قصتها بعدُ. أما أرملة الإيرل الراحل، الكونتيسة السابقة، فقد ظننت خطأً أنها مدبِّرة المنزل.»

١  قضية الحنث بالوعد هي إجراء قانوني كان شائعًا في القرن التاسع عشر، وأتاح للمرأة مقاضاة الرجل الذي وعدها بالزواج ثم أخلف وعده، كي تحصل على تعويضات نظير فقدان سمعتها والدعم المالي الذي كانت ستتلقاه لو تم الزواج. وكان مفهوم وعد الرجل المرأة بالزواج عقدًا ملزمًا قانونيًّا مُعترَفًا به على نطاق واسع في العديد من الولايات القضائية منذ العصور الوسطى على الأقل وحتى أوائل القرن العشرين.
٢  في القرن التاسع عشر، كانت هناك طريقتان للزواج القانوني في إنجلترا: إما عن طريق الإعلان الرسمي عن الزواج لثلاثة آحاد متتالية قبل إبرامه أو الزواج برخصة. في حالة الإعلان الرسمي، تعلن الكنيسة التي ينتمي إليها الزوجان عن موعد الزفاف قبل ثلاثة أسابيع من عقد القران لضمان عدم وجود معارضات قانونية أو أخلاقية للزواج. كان نظام الإعلان الرسمي أرخَص وأكثر شيوعًا، ولكنه يتطلَّب فترة انتظار أطول. أما رخصة الزواج فهي وثيقة تسمح بالزواج دون الحاجة إلى إعلان رسمي، وفي إطار زمني أقصر. كانت الرخصة أغلى ثمنًا؛ لذا كان يلجأ إليها الأثرياء وذوو المكانة الاجتماعية أو مَن لديهم أسباب خاصة لتجنُّب الإعلان الرسمي عن الزواج، مثل حمل العروس، أو معارضة الأسرة للزواج. يمكن الحصول على الرخصة من الأسقف المحلي أو رئيس الأساقفة في كانتربري، أو من مكتب الشئون القانونية، بناءً على ظروف وتفضيلات الزوجين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤