مثل جذع طافٍ يحمله التيار
المنظر: غرفة مفتوحة على حديقة. تزحف الظلال من أركانها طاردةً ضوء
الشفق الخافت.
تجلس السيدة ترافيز في كرسي كبير ومُريح مصنوع من الخوص. ويجلس السيد
ترافيز في الناحية الأخرى من الغرفة يدخِّن السيجار. تقف ماريون أمام نافذة مُصمَّمة
على
الطراز الفرنسي وتتطلَّع إلى الخارج.
السيد ترافيز
:
هذا البيت الذي استأجره هاري صغير ومريح.
السيدة ترافيز
:
أجل، أنصحك بأن تحتفظي بهذا البيت يا ماريون. ستكتشفين أنه عمليٌّ جدًّا. ففي وسع
المرء استقبال ضيوفه بأقل تكلفة هنا، في قرى شمال نهر التيمز، حيث لا يتوقع الناس
إسرافًا في مظاهر البذخ. [تستدير نحو زوجها.] ابنة عمك إيميلي كانت تستقبل نصف
الضيوف على قائمتها — من الأقارب، والأصدقاء الأمريكيين، ومَن على شاكلتهم — بهذه
الطريقة في ذلك البيت الصغير الذي تملكه هي وزوجها في قرية جورينج. من المؤكَّد أنك
تذكره، عن نفسي طالما رأيت أنه يشبه جُحرًا ضيِّقًا ومُزدحِمًا، لكن بوابته كان
يعلوها الكثير من الزروع، وكان يبدو جميلًا حقًّا من الضفة الأخرى من النهر. كانت
دائمًا ما تقدم وجبة غداء من اللحم البارد والمخلل، على غرار الوجبات التي يتناولها
المرء أثناء النزهات في الهواء الطلق. وكان الضيوف يقولون إنها طريقة بسيطة ومريحة
جدًّا لتناول الغداء.
السيد ترافيز
:
أذكر أنهم لم يقيموا لديها لفترة طويلة.
السيدة ترافيز
:
كانت تحتفظ أيضًا بنوع خاص من الشامبانيا لضيوفها في ذلك البيت المُطِل على
النهر، أظن أنها أخبرتني بأن الدستة منه تُباع بخمسة وعشرين شلنًا، كان نوعًا جيدًا
حقًّا بالنظر إلى سعره. ذلك الرائد الهندي العجوز، ما اسمه يا ترى؟ كان يقول إنه
يحب هذا النوع أكثر من أي نوع آخر تذوَّقَه قبلًا. وكان دائمًا ما يحتسي قدحًا
كاملًا منه قبل الإفطار؛ يا لها من عادة غريبة! طالما تساءلت من أين كانت تشتريه.
السيد ترافيز
:
ومعظم مَن ذاقوه تساءلوا مثلك. إن ماريون ترغب في نسيان تلك الدروس، لا التعلُّم
منها. فهي ستتزوج رجلًا ثريًّا قادرًا على استقبال ضيوفه كما يليق.
السيدة ترافيز
:
في واقع الأمر، لا أدري إن كنت أتفق معك يا جيمس. لا أحد منا يقدر على تحمُّل
تكاليف الحياة التي تعكس مقدار الدخل الذي نود أن يظن الناس أننا نملكه. يجب على
المرء أن يوفر النفقات في بند أو آخر. لو لم أعرف كيف أجعل خمسة بنسات تبدو شلنًا،
كنا سنظهر بمظهر مُحرِج أمام أهل المقاطعة. وفوق ذلك، ثمَّة فئة من الناس يجب على
المرء مجاملتهم لكنه لا يرغب في تعريفهم على الدائرة الأقرب من أصدقائه. إذا أردتِ
نصيحتي يا ماريون، فلا تشجعي شقيقات هاري أكثر من اللازم. هُن فتيات لطيفات وطيبات
بالطبع، ويمكنك معاملتهن بكل لطف وكياسة؛ لكن لا تدْعيهن كثيرًا إلى البيت. فسلوكهن
رجعي ومحافظ جدًّا، فضلًا عن أنهن لا يدرين شيئًا عن أناقة الملبس، وهذا النوع من
الناس قد يجعل الطابع العام للمنزل يبدو دون المستوى.
ماريون
:
لا أظن أن قائمة ضيوفي ستتضمَّن العديد من «الفتيات اللطيفات الطيبات». [ثم أضافت
ضاحكةً] فلا توجد اهتمامات مشتركة بيننا تكفي لكي نرغب في قضاء أوقاتنا معًا.
السيدة ترافيز
:
حسنًا، أتمنى فقط أن تتوخَّي الحذر يا عزيزتي. فالكثير من الأمور تعتمد على
الطريقة التي سوف تبدئين بها حياتك، وإذا تصرَّفتِ بحكمة وتعقُّل، فلا أرى سببًا
يمنع من أن تسير أمورك على خير ما يُرام. لا أظن أن لديك شكوكًا فيما يخص دخل هاري.
لن يعترض إذا استفسرنا منه حول هذا الأمر، أليس كذلك؟
ماريون
:
أرى أن تثقي بي فيما يتعلَّق بتلك المسألة يا أمي. هذا الزواج سيكون صفقة خاسرة
لي لو كان رصيده النقدي حتى غير مضمون.
السيد ترافيز
[ينهض فجأة]
:
كم أتمنى ألا تناقش النساء تلك المسألة بهذه الطريقة العملية البغيضة. مَن يسمعنا
فسيظن أن الفتاة تبيع نفسها.
السيدة ترافيز
:
أوه، لا تكن أحمق يا جيمس. لا بد أن يُراعي المرء الجوانب العملية في تلك الأمور.
الزواج مسألة عاطفية من منظور الرجال، ولا بأس بذلك على الإطلاق. لكن المرأة لا بد
أن تُراعي أن الزواج يحدِّد مكانتها الاجتماعية مدى الحياة.
ماريون
:
يا أبي العزيز، إن الزواج هو مشروع المرأة الوحيد. إذا لم تحقِّق ربحًا من بيعها
لنفسها، فلن تتوفَّر لها فرصة أخرى، على الأقل بسهولة كبيرة.
السيد ترافيز
:
أُف! عندما كنت شابًّا كانت الفتيات يتحدثن عن الحب أكثر مما يتحدثن عن الدخل.
ماريون
:
ربما لم يحظين بما حظينا به من تعليم.
[يدخل دان قادمًا من الحديقة. هو رجل تخطى الأربعين بقليل، تبدو
حواف بذلته الكتانية مهترئة بعض الشيء.]
السيد ترافيز
:
كنا نتساءل قبل قليل أين ذهب الجميع.
دان
:
كنا نبحر في النهر. وقد أرسلوني كي أجلبكم معي. إن المنظر خلَّاب عند النهر.
والقمر بزغ لتوِّه.
السيدة ترافيز
:
لكن الجو في غاية البرودة.
السيد ترافيز
:
لا تقلقي من البرد. لقد مرَّت سنوات طويلة منذ أن تطلَّعنا معًا إلى القمر. سيعود
هذا علينا بالخير.
السيدة ترافيز
:
آه يا عزيزي. أنتم يا معشر الرجال لا تتغيرون أبدًا. ناولني شالي إذَن.
[وضع دان شالها حول كتفَيها. ثم مشى الزوجان نحو النافذة حيث وقفا
يتحدثان. خرجت ماريون ثم عادت وهي تحمل قبعة أبيها. أحاط الأب وجهها بكفَّيه وشرع ينظر
إليها.]
السيد ترافيز
:
هل تحبين هاري حقًّا يا ماريون؟
ماريون
:
أحبه بقدر ما تحب المرأة رجلًا يحقِّق دخلًا مقداره خمسة آلاف جنيه سنويًّا. وإذا
استطاع يومًا ما زيادته إلى عشرة آلاف، فسوف يتضاعف حبي له. [تضحك.]
السيد ترافيز
:
وهل أنتِ راضية عن هذا الزواج؟
ماريون
:
راضية جدًّا.
[هز رأسه في جدية معبرًا عن عدم رضاه.]
السيدة ترافيز
:
ألن تأتي يا ماريون؟
ماريون
:
لا. أشعر بالتعب.
[السيد ترافيز والسيدة ترافيز يخرجان.]
دان
:
هل ستتركين هاري وحده مع عصفورَي الحب هذين؟
ماريون
[وهي تضحك]
:
أجل، دعه يرى كم يبدوان سخيفَين. أكره الليل، إنه يتتبع المرء ويطرح أسئلة. لا
تدعه يدخل. تعالَ وتحدث معي. سلِّني.
دان
:
عن ماذا ترغبين أن أحدثك؟
ماريون
:
حدثني عن الأخبار. قُل لي كيف حال العالم؟ مَن هرب مع زوجة مَن؟ مَن احتال على
مَن؟ مَن مِن المحسنين كان يسلب المال من الفقراء؟ مَن مِن القديسين ضُبط يرتكب
إثمًا؟ ما آخر فضيحة؟ مَن انكشف أمره؟ وماذا كان يفعل؟ وماذا يقول الجميع عن هذا
الأمر؟
دان
:
هل تُسلِّيكي هذه الموضوعات؟
ماريون
[تجلس شاردةً أمام البيانو، وتلمس المفاتيح برفق مسترجعةً
العديد من الذكريات]
:
وماذا غير ذلك؟ هل ستُبكيني؟ ألا ينبغي للمرء أن تسرَّه معرفة أصدقائه معرفةً
أفضل؟
دان
:
أرجو ألا تستخدمي تلك الأساليب البلاغية. الكل بارع في الحديث هذه الأيام. إنها
الموضة الجديدة التي تلت موضة زهور عباد الشمس. كنت أفضِّل زهور عباد الشمس، فهي
أكثر بهجة.
ماريون
:
وستصير تفاهة الحديث موضة بعدما تنقضي هذه الموضة على الأرجح. لكني أفضِّل أولئك
البارعين في الحديث. فهم أكثر مراعاة لآداب السلوك. يا لثقل دمك.
[تترك البيانو وتُلقي بنفسها على الأريكة ثم تلتقط كتابًا.]
دان
:
معكِ حق. لقد قضيت وقتًا في صحبة الليل. إنه يتتبَّع المرء ويطرح أسئلة.
ماريون
:
أي أسئلة؟
دان
:
أسئلة كثيرة، والكثير منها بلا إجابة. لمَ أنا شخص عديم النفع، مثل جذع شجرة يطفو
فوق سطح النهر؟ لمَ سبقني جميع الشباب الآخرين؟ أنا رجل أبلغ من العمر، فلنقل تسعة
وثلاثين عامًا، وما زلت أتمتَّع بكامل قواي العقلية والجسدية، ومع ذلك يراني الجميع
بلا قيمة، لكني أعرف قيمتي. كان من الممكن أن أصبح رئيس تحرير كُفئًا، أكرِّس صباحي
كل يوم من الساعة العاشرة حتى الساعة الثالثة ظهرًا لإدارة شئون العالم، أو
سياسيًّا مشهورًا، يحاول أن يفهم ما يتحدث عنه وأن يصدقه. لكن مَن أنا في الحقيقة؟
لست سوى مراسل صحفي أتقاضى ثلاثة بنسات ونصفًا عن كل سطر أكتبه، بل أحيانًا لا
أتقاضى سوى بنسين.
ماريون
:
هل يهم ذلك؟
دان
:
هل يهم؟! هل يهم العلم الذي يرفرف فوق أبراج مدينة بطليوس؟ رغم ذلك سالت دماء
الفرنسيين والإنجليز أنهارًا في سبيل رفع العلم الثلاثي الألوان أو علم الاتحاد فوق
تلك المدينة. هل يهم ما إذا كانت خرائطنا تحدِّد موقع نجم واحد أم أكثر؟ بَيْد أن
أبصارنا تكل من التحديق في أغوار النجوم. هل يهم أن تنجح سفينة واحدة في الإفلات من
حصار الجليد القطبي؟ رغم ذلك يُفني البحَّارة أعمارهم في سبيل بلوغ قطبَي الأرض. إن
لعبة الحياة تستحق أن يلعبها البشر. وثمة معنًى بها. إنها تستحق أن نلعبها حتى لو
كان الدافع الوحيد لذلك هو الارتقاء بأرواحنا. أتمنى لو كنت قد شاركت بها.
ماريون
:
لماذا لم تشارك؟
دان
:
لا توجد شريكة لعب. من الممل أن يلعب المرء بمفرده. فاللعبة تصير بلا هدف.
ماريون
[بعد فترة صمت]
:
كيف كانت تبدو؟
دان
:
كانت تبدو مثلكِ إلى حدٍّ كبير، حتى إنني أحيانًا أتمنى لو لم ألقَكِ قطُّ. أنتِ
تجعلينني أفكر في نفسي، وهذا الموضوع يسرني أن أنساه.
ماريون
:
وهذه المرأة التي تشبهني، هل كانت قادرة على منح الرجل بيتًا وحياة؟
دان
:
دون شك.
ماريون
:
هلا حدثتني عنها؟ هل كان لديها الكثير من العيوب؟
دان
:
كانت عيوبها كافية لأن تجعلني أحبها.
ماريون
:
لكن لا بد أنها كانت امرأة صالحة.
دان
:
كانت صالحة بالقدر الذي يجعلها امرأة.
ماريون
:
عبارتك هذه قد تنم عن تقدير كبير للنساء أو بخس لقيمتهن.
دان
:
إنها تعبِّر عن تقدير كبير من منظوري، فأنا أرى أن النساء قليلات العدد.
ماريون
:
قليلات العدد! كنت أظن أن علماء الاقتصاد يعتقدون أن أعدادنا أكثر من اللازم.
دان
:
بل لا يوجد عدد كافٍ منكن، كافٍ لجميع الرجال. لهذا السبب المرأة الحقيقية لها
عشاق كُثر.
[يسود الصمت بينهما. تنهض ماريون، لكنَّ عينَيهما لا
تلتقيان.]
ماريون
:
كم صار حديثنا جادًّا!
دان
:
يُقال إن الحديث بين الرجل والمرأة دائمًا ما يصير حديثًا جدِّيًّا.
ماريون
[تتحرك بعيدًا، ثم تتردد، فتستدير عائدةً]
:
هل تأذن لي بسؤال؟
دان
:
بالطبع، تفضلي.
ماريون
:
إذا … إذا شعرت في وقت ما باحترام وتقدير تجاه امرأة، هل ستسعى، لأجل خاطرها، إلى
بلوغ المكانة التي تستحقها في العالم، إن عبَّرَت لك هي عن رغبتها في ذلك، هل
ستحاول تحقيق ما يجعلها تفتخر بصداقتك، ما يجعلها تشعر بأن حياتها ذاتها لم تكُن
بلا هدف؟
دان
:
فات الأوان. إن الحصان العجوز لا يملك سوى التطلُّع من فوق السياج ومراقبة الخيول
الشابة إذ تركض في حلبة السباق. في بعض الأحيان، أشعر بالطموح القديم يطل برأسه، لا
سيما بعدما أحتسي كأسًا من النبيذ الجيد، وهاري، بارك الله فيه، يقدِّم نبيذًا من
أجود الأنواع، لكن في صباح اليوم التالي … [أكمل جملته بهزِّ كتفَيه].
ماريون
:
إذَن لن يكون في وسعها فعل أي شيء؟
دان
:
قد لا تستطيع أن تفعل شيئًا لتحسين حظوظه، لكنها ستحسِّن كثيرًا من حياته ونظرته
لذاته. يا صديقتي الشابة لا تهدري شفقتك على رجل يحب أو على طفل يبكي لأنه يرغب في
لمس القمر. إن القمر يستحق أن يبكي المرء لأجله.
ماريون
:
يسعدني أنني أشبهها. ويسعدني أنني لقيتك.
[تمدُّ له يدها، يمسك بها للحظة. ثم تخرج.] [يجد زهرة سقطت من فستانها،
لا يعرف إن كانت تركتها عمدًا أو سهوًا. يلتقط الزهرة ويقبِّلها؛ يديرها بين أصابعه للحظه
مترددًا، ثم يتركها تسقط مجددًا على الأرض.]