اختيار سيرل هارجون
بين مشرف طلابي مبتدئ يبلغ من العمر واحدًا وعشرين عامًا، وصبي متأخر دراسيًّا في الخامسة عشرة من العمر فجوة لا يمكن تجاوزها. ولكن صحفي مكافح في الحادية والثلاثين وطبيب في الخامسة والعشرين، له سجل حافل بالنجاحات ويُتوقَّع منه تحقيق المزيد في المستقبل، قد تنشأ بينهما صداقة وثيقة.
كان القس تشارلز فاوربيرج هو مَن عرَّفني على سيرل هارجون.
أتذكَّر أنه وقف واضعًا يده على كتف تلميذه وتحدَّث إليَّ بذلك الأسلوب التوجيهي الذي يميِّز المعلمين قائلًا: «صديقنا الصغير هذا عانى من بعض التجاهل، لكني أرى أنه يتمتَّع بإمكانات مبشِّرة، مبشِّرة حقًّا إن جاز لي القول. سوف يبقى تحت رعايتي الخاصة في الوقت الحالي؛ لذا لا داعي إلى أن تشغل نفسك بدروسه. وسوف ينام مع ميلينج والآخرين في السكن الطلابي رقم ٢.»
نما لدى الفتى إعجاب ناحيتي، وأظن، بل آمل، أنني جعلت إقامته المؤقتة في مدرسة ألفا هاوس الداخلية أقل مشقة من المعتاد. كان منهج القس تشارلز للتعامل مع الطلاب المتأخرين دراسيًّا لا يختلف في شيء عن طريقة تربية الإوز؛ إذ كان يحشدهم في مكان واحد ثم يصبُّ المعلومات صبًّا في عقولهم. وهي عملية مُربِحة للمعلم ومؤلمة للإوز.
تركت أنا وهارجون الشاب مدرسة «ألفا هاوس» مع نهاية الفصل الدراسي نفسه؛ الْتَحق هو بكلية برايسنوز في حين توجَّهتُ أنا إلى حي بلومزبيري في لندن. حرص على زيارتي كلما أتى إلى لندن، وحينئذٍ كنا نتعشى معًا في أحد المطاعم المعتمة بحي سوهو، والذي تفوح منه رائحة الثوم، ثم نتحدث عن خططنا المستقبلية ونحن نحتسي زجاجة من خمر بون الرخيص؛ وعندما بدأ العمل بمستشفى جاي كنت قد تركت شارع جون، واستأجرتُ مسكنًا بالقرب من محل إقامته في ستابل إن. كانت تلك أيامًا جميلة. يبالغ الناس في تقدير مرحلة الطفولة، رغم أن ما بها من أسًى يفوق ما تحمله من بهجة. لا أرغب في عيش طفولتي مجددًا حتى لو أُتيحت لي الفرصة، لكني على استعداد لأن أضحِّي ببقية عمري في سبيل عيش عقد العشرينيات مجددًا.
كان سيرل يراني رجلًا واسع الخبرة، ويلجأ إليَّ لسماع آرائي الحكيمة، لكنه لم يدرك دومًا، مع الأسف، أنه يتحلى بالحكمة هو الآخر؛ أما أنا فكنت أستمد منه الحماس وقد ساعدني على إدراك مدى النفع الذي يعود على الرجل منا حين يلتزم بمبادئه.
لكن العالم لا يزال يحتاج إلى الجهد البشري، وإنْ كان العمل مطلوبًا الآن في الحقول لا في ميادين الحرب. وبفضل دخل صغير، لكنه كافٍ، نال سيرل حريته. يرى معظم الرجال أن الدخل الثابت هو مقبرة الطموح؛ لكن في حالة سيرل كان هذا الدخلُ المحفِّزَ الأساسي لرغبته في العمل. فبعدما تخلَّص من ضرورة العمل لكسب العيش، صار يملك ترف العيش من أجل العمل. كان يعشق عمله؛ ولم يرَه بعين الفضول البارد الذي يميز العالِم، بل بعين المريد المتفاني الواسع الخيال. كان يحلم بتوسيع آفاق الطب، وحمل رايته إلى الصحراء المجهولة التي تقع خلف حدود المعرفة البشرية.
في إحدى أمسيات الصيف، أتذكر أننا كنا جالسين في مسكنه، وفي لحظة صمت تناهى إلى سمعنا صوت أنين المدينة قادمًا من النافذة المفتوحة، وكأنها طفل مُتعَب يتأوَّه. نهض سيرل ومدَّ ذراعَيه نحو الشوارع المظلمة، كأنما يدعو جميع الرجال والنساء الكادحين لأن يأتوا إليه كي يخفِّف عنهم.
صاح قائلًا: «ليتني أستطيع مساعدتكم يا إخواني وأخواتي. يا إلهي، أتضرَّع إليك! اجعل حياتي مُكرَّسة لخدمة عبيدك.»
عندما أقرأ كلامه هذا مكتوبًا يبدو لي كلامًا مسرحيًّا، لكن الشباب لن يعدُّوه سخيفًا مثلنا نحن الرجال الأكبر عمرًا.
وبحسب التطور الطبيعي للأحداث، وقع في الحب، حب امرأة من النوع الذي يُتوقَّع منه أن ينجذب له. كانت إليسبث جرانت من النساء اللاتي استلهم منهن فنَّانو العالم، على نحو غريزي لا عن قناعة، وجوه السيدة العذراء والقديسين. من المستحيل وصف امرأة بالكلمات. وجمال إليسبث لم يكن سِمة منفصلة يمكن تقييمها على حدة بل جزء لا يتجزأ من ذاتها. كان المرء يشعر به مثلما يشعر بجمال فجر يوم صيفي إذ يبزغ مبددًا ظلال المدينة النائمة، لكنه يعجز عن وصفه كتابةً. لقيتها مرارًا، وعندما كنت أتحدَّث معها، كنت أشعر — أنا الصحفي الفاشل، زبون حانات شارع فليت، وبيَّاع القصص التي يرويها الرجال في غرف التدخين — أنني سيد مهذب راقٍ، لا يعرف معنى الخسة، ولا يبدر منه سوى كل فعل نبيل.
في حضورها كانت الحياة تبدو جميلة وكريمة؛ وكانت هي تجسيدًا حيًّا لقيم اللباقة والرقة والبساطة.
تساءلت منذ ذلك الحين، بعدما اكتسبت فهمًا أوضَح قليلًا لطبائع البشر، ألم يكن من الأفضل لو كانت أقل روحانية، لو اتسمت طبيعتها بمزيد من الخصال الأرضية بما يجعلها أكثر ملائمة لأغراض هذا العالم العادي. لكن وقتها، بدا لي أن هذين الصديقين قد خُلق كلٌّ منهما لأجل الآخر.
راقت الآنسةَ جرانت الجوانب الأسمى من شخصية سيرل، وعبَدَها هو بافتتان ظاهر إلى حدٍّ قد يحسبه رجل أقل نبلًا تكلُّفًا واصطناعًا، وتقبلت هي مشاعره تلك بسرور عَذْب مثلما كانت الإلهة أرتميس تتقبَّل توقير إنديميون وإجلاله لها.
لم تُعقَد خِطبة رسمية بينهما. بدا أن سيرل ينفر من إضفاء طابع مادي على حبهما عَبْر فكرة الزواج. كان يراها مثَلًا أعلى للأنوثة لا امرأة من لحم ودم. كان حبه لها حبًّا روحانيًّا خالصًا، لا تلوِّثه أي شهوات دنيوية.
لو كنت أكثر خبرة بالحياة وقتها ربما توقعت ما ترتب على ذلك؛ فصديقي رجل يجري الدم في عروقه؛ ونحن، مع الأسف، قد نحلم بالمُثل التي تمجِّدها قصائد الشعر، بَيْد أننا لا نحيا وفقًا لها. لكن في ذلك الوقت كنتُ أرى أن فكرة تفريق امرأة أخرى بينهما لا تزيد على زعم أحمق. وتصوُّر أن تكون تلك المرأة الأخرى هي جيرالدين فاولي كان يثير استيائي لأني سأعدُّه إهانة لذكائي؛ هذا الجزء من القصة لا أفهمه حتى الآن.
أما انجذاب سيرل لها، ورغبته في التواجد بقربها، ومشاهدة الحمرة القانية إذ تروح وتجيء فوق وجهها، والسعي لإشعال نار الفضول في عينيها الداكنتين فتلك كانت مسألة مختلفة، ويمكن فهمها إلى حدٍّ كبير؛ فالفتاة كانت رائعة الجمال، وجمالها كان من النوع الصارخ المُغري، الذي يدعو الآخرين ويتحدَّاهم في الوقت نفسه. لكن إذا استثنينا المنظور الشهواني، تظلُّ جيرالدين فاولي امرأة مُنفِّرة. في بعض الأحيان، كانت تُبدي لطفًا مفاجئًا في حال ناسب ذلك أغراضها ورأت أنه يستحق الجهد، لكن تظاهرها باللطف كان دائمًا مُبالَغًا فيه وغير مُتقَن، ولم يخدع سوى الحمقى.
في جميع الأحوال، لم ينخدع سيرل بسلوكها هذا. في إحدى الأمسيات، كنا في تجمُّع بوهيمي، كان الدخول إليه يعتمد على سوء سُمعة المرء لا أخلاقه، رأيتهما يتحدثان معًا لوقت طويل، ورغبت في التحدث إلى سيرل، فسِرتُ نحوهما كي أنضم إليهما. لكن ما إن اقتربت منهما حتى ابتعدَت هي؛ إذ إن نفورها مني كان يعادل نفوري منها؛ وربما كان هذا من حُسن حظي.
علَّقتُ، وأنا أراقبها تبتعد، قائلًا: «يبدو أن الآنسة فاولي تفضِّل صحبة شخص واحد على صحبة شخصَين.»
رد ضاحكًا: «أخشى أنها تراك شخصًا غير متعاطف.»
سألته صراحةً: «هل تُعجبك؟»
استقرَّت عيناه عليها إذ تقف عند مدخل المنزل تتحدث مع رجل ضئيل الجسد ذي لحية سوداء عرَّفَه أحدُهم عليها للتو. وبعد بضع لحظات خرجت معه وذراعها في ذراعه، وحينئذٍ الْتَفتَ سيرل ناحيتي.
أجابني بصوت خفيض، مراعاة للناس من حولنا، قائلًا: «أرى أنها تجسيد لكل جوانب الشر في النساء. في الأزمنة الماضية، كان يمكن أن تكون كليوباترا أو ثيودورا أو دليلة. في عصرنا الحالي، ونظرًا إلى نقص الفُرص، أصبحت «امرأة ذكية» تفتِّش عن سبيل للانضمام إلى المجتمع الراقي، فضلًا عن كونها ابنة فاولي العجوز. أشعر بالتعب؛ فلنعُد إلى منازلنا.»
كان ذِكْره أباها أمرًا ذا دلالة. فقليل من الناس يربطون جيرالدين فاولي الجميلة والذكية ﺑ «فاولي المحتال»، السجين السابق والمرتد عن الديانة اليهودية، والذي يعمل سمسارًا غير قانوني؛ ولأنه يعقد آمالًا على ما قد تحقِّقه ابنته، فقد حرص على ألا يعيق جهودها عَبْر الظهور برفقتها في أي مناسبة. لكن مَن لقي الأب ولو مرَّة في حياته فلن ينسى أبدًا صِلة القرابة تلك إن تحدَّث مع الابنة. فوجهُها نسخة من وجه الأب، بقسوته ومَكْره وطَمَعه، ويحمل الملامح والخطوط نفسها. وكأن الطبيعة، في نزوة فنية من نزواتها، عزمت على خَلْق البشاعة والجمال من المواد الخام نفسها. هل ثمَّة فرق بين ابتسامة الرجل الشهوانية الكريهة وابتسامة الفتاة؟ الإجابة عن هذا السؤال كانت ستحيِّر أي طالب تشريح. ورغم ذلك، فإن ابتسامة الأب تثير الاشمئزاز في حين أن الكثير من الرجال على استعداد لتقديم الكثير في مقابل أن تبتسم الفتاة في وجوههم.
أرضتني إجابة سيرل وقتها. كان يلقى الفتاة كثيرًا، بطبيعة الحال. فهي كانت مغنِّية مشهورة بعض الشيء، وكنا ننتمي إلى دائرة اجتماعية معروفة باهتماماتها الأدبية والفنية. يجدر بي، من باب الإنصاف، أن أذكر أنها لم تحاول استمالته قطُّ، أو حتى معاملته بلُطف زائد. على العكس، بدا أنها تسعى جاهدةً كي تبيِّن له طبيعتها، أي سِماتها الأشد إثارة للبُغض والاستهجان.
في أحد الأيام، كنت أنا وسيرل نحضر ليلة افتتاح عرض مسرحي، وبينما نغادر قاعة العرض، لقيناها في ردهة المسرح. كنت أتبع سيرل على مسافة قريبة بعض الشيء، لكن عندما توقَّفَ للتحدُّث إليها أدَّت حركة الحشود إلى دفعي كي أقف خلفه بالضبط.
سمعته يسألها بصوت خفيض: «هل ستذهبين إلى منزل لايتونز غدًا؟»
أجابته: «نعم سأذهب، وأتمنى ألا تأتي.»
سألها: «لماذا؟»
ردَّت قائلة: «لأنك أحمق، وصُحبتك تضجرني.»
في الأوضاع العادية، كنت سآخذ كلامها هذا على سبيل المزاح الثقيل؛ فهذا النوع من الظَّرف يتلاءم مع طبيعتها. لكن وجه سيرل تكدَّر وبدا عليه الغضب والاستياء. لم أعلِّق بشيء. فلم أرغب في أن يعرف أنني سمعت كلامها عرَضًا. حاولت إقناع نفسي بأنه يسلِّي نفسه، لكن تفسيري هذا لم يُرضِني.
في مساء اليوم التالي، ذهبتُ إلى منزل لايتنز وحدي. كان آل جرانت في المدينة وكان سيرل يتناول العشاء معهم. وجدتُ أنني لا أعرف الكثير من الحاضرين، ومَن أعرفهم لا يهمونني. كنت على وشك التسلُّل هاربًا عندما سمعت الخادم يُعلن مجيء الآنسة فاولي. اضطرت إلى التوقف والتحدث معي لأني كنت واقفًا بجوار الباب. تبادلنا القليل من الكلام المعتاد. كانت إما تتودَّد إلى الرجال أو تعاملهم بوقاحة. لم تنظر إليَّ وهي تُحادثني، بل كانت تبتسم وتومئ برأسها للناس من حولها. وقد لقيت الكثير من النساء القليلات التهذيب مثلها، دون أن يكون لهُنَّ عذر مثل عذرها. بَيْد أنها، حوَّلت عينَيها ناحيتي للحظة.
ثم سألتني: «أين صديقك، سيرل هارجون؟» ثم أضافت: «ظننتُ أنكما لا تفترقان.»
نظرتُ إليها بدهشة.
ثم أجبتُها: «إنه يتناول العشاء بالخارج الليلة.» واستطردتُ: «لا أظن أنه سيأتي.»
ضحكت. أظن أن أسوأ ما فيها كان ضحكتها؛ كانت تشي بقسوة بالغة.
ثم قالت: «أظن أنه سيأتي.»
أغضبني ردُّها إلى حدٍّ دفعني للتصرُّف بتهوُّر. كانت تتحرك مُبتعِدة. فخطوتُ أمامها كي أوقفها.
ثم سألتها، بصوت أدركتُ أنه أفشى الاضطراب الذي أشعرني به ردُّها: «لمَ تظنين ذلك؟»
نظرَت إلى وجهي مباشرةً. كانت تتمتَّع بفضيلة واحدة، فضيلة تتفوق بها الحيوانات على بني البشر؛ ألا وهي الصدق. كانت تعلم أنني لا أحبها، كنت سأقول إني أكرهها، مراعاةً لدقة التعبير، لو لم تبدُ هذه الكلمة عتيقة الطراز في هذا الزمن، وفوق ذلك لم تتظاهر البتة بأنها لا تدري حقيقة مشاعري بل أظهرت أنها تكنُّ لي الشعور نفسه.
أجابتني قائلة: «لأني هنا.» ثم استطردَت: «لمَ لا تُنقذه؟ أليس لك تأثير عليه؟ قُل لتلك المرأة القديسة أن تحتفظ به؛ فأنا لا أريده. لقد سمعتُ ما قلتَه له ليلة البارحة. لن أتزوجه إلا طمعًا في مكانته، وفي المال الذي قد يربحه إنْ كان يرغب في العمل لا في لعب دور الأحمق. أبلِغه هذا الكلام؛ لن أنكر أني قُلته.»
ثم تركَتْني كي تحيِّي لوردًا هرِمًا بابتسامة متلهِّفة، ووقفتُ أنا أحدِّق في أثرها، وعلى وجهي تعبير ينمُّ عن الغباء، حتى جاء شاب أحمق من الحضور كي يسألني باسمًا هل رأيت شبحًا أم راهنت على «فرس خاسر».
لم تكُن ثمَّة حاجة للانتظار؛ لم أشعر بأي فضول. أنبأني شيء ما أن هذه المرأة قد نطقت بالحقيقة. ما جعلني أتلكَّأ قبلًا كان افتقاد الدافع للتدخُّل. بعد قليل رأيت سيرل يدخل، وراقبته إذ يتتبَّع خُطاها، مثل كلب، في انتظار كلمة طيبة، أو حتى نظرة. كنت أعرف أنها تراني، وأدركت أن وجودي زاد من متعتها. لم أتحدَّث إليه إلا بعدما خرجنا إلى الشارع. جفل عندما لمسته. لم يكن أيٌّ منا يجيد التمثيل. حتمًا قرأ الكثير على وجهي، ولم يُخفِ ذلك عليَّ؛ سِرنا جنبًا إلى جنب صامتَين، كنت أفكِّر فيما سأقول، متسائلًا ما إذا كنت سأنفعه أم سأضره، وتمنَّيتُ لو كنا في أي مكان آخر غير تلك الشوارع الصامتة التي تعج بمظاهر الحياة، وتمتلئ بما لا تراه العيون. ظللنا صامتَين حتى كِدنا نصل إلى قاعة ألبرت هول. حينئذٍ بدأ هو بالحديث، قال: «هل تظن أنني لم أقُل لنفسي هذا الكلام؟». ثم أضاف: «هل تظن أنني لا أعرف أني أحمق ووغد وكاذب! ما فائدة الحديث عن هذا الأمر بحق الجحيم؟»
قلت: «لكني عاجز عن فَهْمه.»
رد قائلًا: «لأنك أحمق، ولأنك لم ترَ سوى جانب واحد مني. أنت تظن أنني سيد مهذَّب عظيم، لأني أتحدث بفصيح العبارة، وأبدو مفعمًا بالمشاعر النبيلة. عجبًا لك أيها الأحمق، الشيطان نفسه قد يخدعك بالطريقة نفسها. أظن أنه يصير أحيانًا في حالة مزاجية جيدة، ويتحدث مثل القديسين، ويتلو صلواته معنا. هل تتذكر ليلتي الأولى في مدرسة فاوربيرج العجوز؟ لقد دسست رأسك الأبله هذا بين درفتَي باب المهجع ورأيتني راكعًا بجوار السرير في حين وقف باقي الصبية وعلى وجوههم ترتسم ابتسامات عريضة. أغلقتَ الباب برفق حينها؛ إذ ظننتَ أنني لم أرَك. لم أكُن أصلِّي، كنت أحاول أن أصلي.»
أجبتُه قائلًا: «إنْ دلَّ هذا على شيء فإنه يدل على شجاعتك.» ثم أضفت: «معظم الصبية لم يحاولوا حتى، لكنك واظبت على الصلاة.»
قال: «نعم، لقد وعدت أمي بذلك. يا للعجوز المسكينة، لقد كانت بلهاء مثلك. كانت تؤمن بي. ألا تذكر أنك ضبطتني عصر يوم سبت وأنا أزدرد الكعك والمربى؟»
ضحكت عندما تذكرت، ويعلم الله أنني لم أكُن في مزاج يسمح بالضحك.
كنت قد وجدته جالسًا وأمامه تشكيلة من المعجنات تكفي لإصابته بالمرض طوال أسبوع، فضربته على أذنه، وألقيت الحلوى كلها خارجًا.
تابع حديثه قائلًا: «كانت أمي تعطيني مصروفًا أسبوعيًّا مقداره شلنان ونصف شلن، أخبرت باقي الصبية أني لا أملك سوى شلن، كي أستحوذ على الشلن والنصف الباقيين وأتخم نفسي بالطعام دون إزعاج من أحد. تبًّا! كان لي طبع دنيء حتى في تلك الأيام!»
حاججتُه قائلًا: «تلك مجرد حيلة من حِيَل الصبيان، وأمر طبيعي في هذه السن.»
رد بقوله: «أجل، وما أفعله الآن هو حيلة من حِيَل الرجال، وهي أمر طبيعي أيضًا؛ بَيْد أنها سوف تدمر حياتي وتحولني من إنسان إلى بهيمة. هل تظن أنني لا أعلم ما ستفعله بي تلك المرأة؟ سوف تجرني إلى أسفل سافلين، إلى مستواها. سوف أقايض مُثلي العليا وطموحاتي وكل ما حققته في عملي كي أصير طبيبًا متعجرفًا يعالج المرضى مقابل المال. سوف أخطط وأدبر كي أحصِّل دخلًا كبيرًا يمكِّننا من العيش مثل زوجين من الخنازير المكتنزة، ومن ارتداء الملابس المبهرجة واستعراض ثروتنا. لن يرضيها شيء. النساء على شاكلتها يُشبهن العلَقات التي تتغذَّى على الدم؛ شعارهن الوحيد في الحياة هو «هات، هات، هات». طالما وفرت لها المال، سوف تتحملني، ولكي أجلب لها المال سوف أبيع قلبي وعقلي وروحي. سوف ترتدي طنًّا من المجوهرات، وتتجوَّل بين المنازل نصف عارية كي توزع نظراتها الشهوانية على كل رجل تلقاه؛ تلك هي «الحياة الحقيقية» من منظور هؤلاء النسوة. وسوف أهرول وراءها بعدما صرت أضحوكة الحمقى، ومحط ازدراء الرجال.»
كان يتحدَّث بحماس بالِغ جعل كلماتي تبدو واهية من قبل أن أنطق بها. أي حجج قد أدفع بها تفوق ما ذكره هو نفسه؟ عرفت رده على كل شيء قد أطرحه.
كان خطئي أني تخيَّلتُه مختلفًا عن باقي الرجال. بدأت أدرك حينها أنه لا يختلف عن بقيتنا؛ نصفه ملاك والنصف الآخر شيطان. بيد أنه كشف لي أمرًا جديدًا: كلما علا النصف الملائكي، زاد انحطاط النصف الآخر. بدا لي كما لو أن الطبيعة تحرص على مراعاة التوازن فيما تصنع؛ كلما اقتربت أوراق الشجرة من السماء، ضربت جذورها عميقًا في ظلمة الأرض. عرفت أن ولعه بهذه المرأة لم يغيِّر شيئًا في حبه الأول الحقيقي. فهذا الحب كان حبًّا روحانيًّا، أما عاطفته تجاه المرأة الأخرى فلم تكُن سوى شهوة حيوانية. بدأت أتذكر حوادث حيَّرتني وقت حدوثها لكنها عادت إليَّ الآن كي تعينني على الفهم. تذكرت أني كثيرًا ما كنت أسمع خطواته الثقيلة والمترددة تمرُّ ببابي أثناء الليالي التي قضيتها ساهرًا لإتمام عملي؛ وتذكرت أني رأيت مرَّة شخصًا يشبهه بدرجة غريبة في حي قذر من أحياء لندن. وقد تبعته كي أتحدَّث معه، لكن عينَي الرجل الحمراوين والمنتفختين حدَّقَتا فيَّ بغضب فاستدرت عائدًا، وأنا أتهم نفسي بالحمق بسبب هذا الخطأ. والآن بينما أتطلَّع إلى الوجه الواقف بجواري، فهمت.
عندئذٍ رأيت الوجه الذي كنت أعرفه جيدًا ماثلًا أمام عيني، الوجه النبيل المتحمِّس الذي كان النظر إليه فحسب يولد شعورًا طيبًا داخلي. كنا قد بلغنا شارعًا صغيرًا تنبعث منه رائحةٌ آسنةٌ يصل ميدانَ ليهستر بحي هولبورن. أمسكته من كتفيه وأدرت وجهه ناحيتي وكان ظهره يواجه السلالم الحديدية لإحدى الكنائس.
نسيت ما قلته له وقتها. نحن البشر كائنات غريبة. كنت أفكر في الصبي الخجول المتأخر دراسيًّا، الذي وجَّهته وقسوت عليه في مدرسة فاوربيرج العجوز، في الفتى الضاحك الوسيم الذي شاهدته يبلغ طور الرجولة. كان المطعم الذي اعتدنا ارتياده أيام دارسته في أكسفورد — حيث باح كلٌّ منا بمكنونات روحه للآخر — يقع في هذا الشارع الذي كنا نقف فيه. في تلك اللحظة شعرت ناحيته بمشاعر ربما تماثل ما شعرت به أمه؛ أردت أن أوبِّخه وأن أبكي معه؛ أن أرجَّه رجًّا وأن أحيطه بذراعيَّ. توسلت إليه وحاولت إقناعه ونعته بكل الشتائم التي تفتق عنها ذهني. لا بد أن محادثتنا بدت مستغربة. فعندما مر شرطي بجوارنا، ارتاب فينا بطبيعة الحال، وحول عينيه الثاقبتين نحونا، ثم نصحنا بصرامة أن نعود إلى منازلنا. ضحكنا، ومع تلك الضحكة عاد سيرل إلى ذاته الحقيقية، وواصلنا السير نحو ستابل إن في هدوء ورصانة. وعدني أنه سيستقل أول قطار صباح اليوم التالي، ويسافر لأربعة أو خمسة أشهر، وتعهدت بتقديم التفسيرات الضرورية لسفره المفاجئ.
شعر كلانا بتحسُّن بفضل حديثنا، وعندما تمنَّيت له ليلة طيبة على باب مسكنه، كانت يد سيرل هارجون الحقيقي هي التي صافحت يدي؛ وأقول سيرل الحقيقي لأن أفضل ما في الإنسان هو ما يشكِّل ذاته الحقيقية. وإذا كان للإنسان مستقبل فيما وراء هذا العالم، فإن الخير بداخله هو الذي سيبقى. أما الجانب الآخر منه فهو مخلوق من طين الأرض؛ وهو الجانب الذي سيتركه وراءه.
أوفى سيرل بوعده. وغادر في الصباح الباكر، ولم أرَه مجددًا أبدًا. تلقيت خطابات كثيرة منه، كانت مُفعَمة بالأمل في البداية، وتعج بالقرارات الحاسمة. أخبرني أنه بعث خطابًا إلى إليسبث، لم يحكِ لها القصة كلها؛ لأنها سوف تعجز عن فهم موقفه، لكنه ذكر الكثير مما يفسر ما حدث، وقد تلقى منها خطابات أنثوية في غاية اللطف ردًّا على خطاباته. خشيت أن تعامله ببرود وقسوة؛ فالنساء الصالحات لا يُبدِين في كثير من الأحيان شفقة كبيرة تجاه مَن يخوضون صراعات، لأنهن لم يتعرَّضن أنفسهن للأغراء. بيد أن طيبتها لم تكن مجرد صفة ظاهرية؛ فقد أحبته أكثر لأنه كان يحتاج إليها. وأعتقد أنها كانت ستنقذه من نفسه، لولا أن تدخل القدر وتسبب في إخراج الأمور عن سيطرتها. إن النساء قادرات على تقديم تضحيات عظيمة؛ وأومن بأن هذه المرأة كانت سترضى بأن تحطَّ من قدر نفسها إن كان ذلك سيؤدي إلى الارتقاء به.
لكن لم يكتب لذلك التحقق. كان قد أرسل إليَّ من الهند يخبرني أنه سيعود إلى الوطن. لم أكُن قد لقيت تلك المرأة المدعوَّة فاولي منذ فترة، ولم ترد على ذهني حتى وقعت يدي صدفةً على صحيفة مختصة بأخبار المسرح يرجع تاريخها إلى أسابيع مضت، وقرأت فيها الخبر التالي: «أبحرت الآنسة فاولي إلى كالكوتا الْتِزامًا بعقد عمل طويل الأمد.»
كان خطابه الأخير في جيبي. جلست وشرعت أقارن التواريخ. من المفترض أن تصل إلى كالكوتا قبل يوم من مغادرته. لم أدرِ قطُّ ما إذا كان الأمر صدفة أو مخطَّطًا من جانبها؛ احتمالية حدوث الأمر صدفة لا تقل عن الاحتمالية الأخرى، ففي هذا العالم نزعة قدرية تشكِّل مصائرنا.
لم أسمع منه بعد ذلك، وهو ما توقعته، بَيْد أني لقيت صديقًا مشتركًا بيننا بعد ثلاثة أشهر على سلالم النادي.
قال لي: «هل سمعت ما جرى لسيرل هارجون الشاب؟»
أجبته: «لا.» ثم سألته: «هل تزوج؟»
رد قائلًا: «تزوج! لا، بل مات، يا للمسكين!»
كدتُ أقول «الحمد لله»، لكني تمالكت نفسي. سألته: «كيف مات؟»
أجابني قائلًا: «في رحلة لصيد الطيور في أرض حاكم هندي. يبدو أن بندقيته قد علقت في بعض الشجيرات. فقد مرَّت الرصاصة عبر رأسه مباشرة.»
قلت: «يا إلهي، يا لها من مأساة!» ولم أعرف ما أقول غير ذلك في تلك اللحظة.