تجسُّد روحَي تشارلز وميفانواي

يعيب هذه القصة أنها لا تُصدَّق؛ هكذا سيرى معظم الناس. فأحداث القصة تبدو مستبعَدة، وجوُّها يخاله المرء مُصطَنعًا. ولأن حقائق الحياة هي مستحيلات الأدب، فأنا أعي جيدًا أن جُرمي يزداد فداحةً عندما أزعم أن وقائعها قد حدثت بالفعل لكن ليس كما سأشرع في كتابتها الآن، فقلم الكاتب المحترف لا يملك سوى تنميق كلماته وتجميلها، حتى وإن أضرَّ ذلك بقصته. والأديب الحقيقي كان سيدع هذه القصة لحالها، أو كان سيحتفظ بها على أكثر تقدير لإغاظة أصدقائه في الدوائر الأقرب له. بيد أن الغرائز الدنيا بداخلي تدفعني إلى الاستفادة منها. روى لي رجل هرِمٌ هذه الحكايةَ. كان يملك سابقًا نُزل كروملك أرمز، وهو النُّزل الوحيد في قرية صغيرة تحاوطها الصخور في الساحل الشمالي الشرقي لمقاطعة كورنوال، وقد امتلك هذا النُّزل طوال تسعة وأربعين عامًا. صار النُّزل الآن يُدعى فندق كروملك، ويديره طاقم جديد، وفي موسم الرواج يجلس يوميًّا على مائدة الطعام في صالة الاستقبال ذات السقف المنخفض عددٌ من السياح يملأ أربع عربات كاملة، ويتناولون طعام الغداء المكوَّن من أصناف محدَّدة بأسعار ثابتة. لكن القصة التي سأرويها حدثت منذ سنوات بعيدة، عندما كان المكان ميناء صيد فحسب، لم تكتشفه بعدُ كُتيِّبات الإرشاد السياحي.

تحدَّث المالك العجوز إليَّ، وأصغيتُ له ونحن جالسان على دكة تمتد بمحاذاة الحائط أسفل النوافذ الشبكية بالنُّزل، وكنا نحتسي الجعة الخفيفة في أقداح فخارية في ساعة متأخرة ذات مساء صيفي. كان حديثنا ينقطع كثيرًا؛ إذ كان العجوز يتوقَّف عن الكلام كي ينفث دخان غليونه في صمت، ويلتقط أنفاسه، وحينئذٍ كانت تتناهى إلى مسامعنا همسات المحيط الأطلنطي؛ وكثيرًا ما كان يخالط الزئير المهيب للأمواج الضخمة البعيدة صوت ضحكة عابثة لموجة صغيرة ربما تسلَّلَت نحونا كي تستمع إلى الحكاية التي يسردها مالك النُّزل العجوز.

الخطأ الذي ارتكبه كلٌّ من تشارلز سيبون — الشريك الأصغر في شركة سيبون وابنه لأعمال الهندسة المدنية في لندن ونيوكاسل أبون تاين — وميفانواي إيفانز — الابنة الصغرى للقس توماس إيفانز، راعي الكنيسة المشيخية في بريستول — كان الزواج في سنٍّ مبكِّرة جدًّا. فتشارلز كان قد بلغ العشرين لتوِّه، وميفانواي كانت قد تجاوزت السابعة عشرة بقليل عندما التقيا لأول مرة فوق المنحدرات، على بُعد ميلين من نُزل كروملك أرمز. جاء تشارلز سيبون إلى القرية ضمن نزهة على الأقدام وقرَّر قضاء يوم أو اثنين لاستكشاف الساحل الخلَّاب، وكان أبو ميفانواي قد استأجر في ذاك العام منزلًا ريفيًّا مجاورًا للشاطئ، لقضاء عطلة الصيف.

في ساعة مبكِّرة من صباح أحد الأيام — فالمرء في الحادية والعشرين من العمر يكون مجتهدًا ويخرج للتريُّض قبل الإفطار — كان تشارلز سيبون الشاب مستلقيًا على جانب المنحدر، يتابع تكسُّر الأمواج التي يعلوها الزبد الأبيض فوق الصخور السوداء بالأسفل ثم انحسارها عنها، حينما لمح طيفًا يبرز من الأمواج. لم يسمح له موقعه بتبيُّن ماهيته بوضوح؛ إذ كان بعيدًا جدًّا، لكن بملاحظة ما يرتديه أدركَ أنه طيف أنثى، وعلى الفور تحوَّلَت أفكاره، ذات الطابع الشاعري، إلى فينوس أو أفروديت، وكان يفضِّل الاسم الثاني نظرًا إلى كونه رجلًا مهذَّبًا رفيع الذوق. شاهد الطيف يختفي خلف اللسان الممتد في المحيط، لكنه ظلَّ ينتظره. وفي غضون عشر دقائق أو ربع ساعة، عاود الظهور مرتديًا الثياب السائدة في ستينيات القرن التاسع عشر، وتوجَّه ناحيته. كانت مجموعة من الصخور تُخفي تشارلز عن الأنظار، فصار في وسعه مراقبة هذا الطيف على مهل؛ إذ يصعد الدرب المنحدر مبتعدًا عن الشاطئ، وأتصوَّر أنه كان سيبدو غاية في العذوبة والأناقة حتى لعينٍ أقل تأثرًا من عين شاب في العشرين. ومع أن مياه البحر لا تصلح بديلًا لأدوات تمويج الشعر — وليصحِّح لي القرَّاء هذا إن كنتُ مخطئًا — فإنها منحت خصلات شَعر الآنسة إيفانز الصغرى تموُّجًا من أروع ما يكون. كان وجه الفتاة مثل لوحة تفنَّنَت الطبيعة في رسمها باللونين الأحمر والأبيض، وبدا أن عينَيها الطفوليتَين الواسعتين تجوبان العالَم بحثًا عمَّن يرسم الضحكة على شفتَيها الحُلوتَين البارزتَين. وكان وجه تشارلز المتطلِّع نحوها مشدوهًا وتعلوه أمارات الإعجاب. ندَّت عن شفتَيها المنفرجتَين قليلًا صيحةُ إجفال، تبعتها ضحكات مرِحة، انقطعت فجأةً عندما تخضَّبَت وجنتاها بحمرة قانية. ثم بدت عليها مظاهر الاستياء كأنما تُعلن لتشارلز أن ما حدث كله كان خطأه، مثلما تفعل النساء عادةً. شعر تشارلز بالذنب بفعل نظرة السخط الحادة في عينَيها فنهض في ارتباك واعتذر في خنوع، رغم أنه لم يدرِ عمَّ يعتذر، أعَن ذهابه إلى المنحدرات من الأساس أم عن استيقاظه في ساعة مبكرة أكثر من اللازم؟

قبلت الآنسة إيفانز الصغرى اعتذاره بانحناءة مهذَّبة، ثم واصلت طريقها، ووقف تشارلز يحدِّق بها حتى ضمَّها الوادي بين ذراعَيه المنبسطتَين وأخفاها عن بصره.

كان هذا الموقف بداية كل شيء؛ كل شيء في الكون من منظور تشارلز وميفانواي.

بعد ذلك بستة أشهر، صارا زوجين شابَّين، أو طفلين بالأحرى. أشار سيبون الأب بالتأجيل، لكن نفاد صبر سيبون الابن كانت له الغلبة. أما القس إيفانز، فكان لديه، مثل أغلب المشتغلين باللاهوت، مخزون كبير من البنات غير المتزوجات ودخل محدود. لذا لم يرَ داعيًا إلى تأجيل الزواج.

قضى الزوجان شهر العسل في منطقة نيو فورست. وكان قرارهما هذا خطأً بادئ ذي بدء. فأجواء نيو فورست في شهر فبراير تبعث على الكآبة، فضلًا عن أنهما اختارا بقعة من أشد بقاعها انعزالًا. ربما كان من الأفضل لهما أن يقضيا أسبوعين في باريس أو روما. فحتى الآن لم يجدا موضوعًا يتحدَّثان عنه سوى الحب، وكانا قد قضيا الشتاء كله يتحدثان في هذا الموضوع ويكتبان عنه باستمرار. وهكذا، في صباح اليوم العاشر من شهر العسل، تثاءب تشارلز، وقضت ميفانواي نحو نصف ساعة تبكي في غُرفتها بسبب ذلك. وفي مساء اليوم السادس عشر، كانت ميفانواي تشعر بضِيق لا تعرف له سببًا (كأن قضاء خمسة عشر يومًا في أجواء نيو فورست الرطبة والباردة ليس سببًا كافيًا لإثارة الضِّيق في نفس أي امرأة)، وطلبت من تشارلز ألا يفسد تصفيفة شعرها؛ فانعقد لسان تشارلز من الدهشة وخرج إلى الحديقة حيث أقسم، ونجوم السماء شاهدة عليه، أنه لن يداعب شَعر ميفانواي أبدًا حتى آخر عُمره.

وقد ارتكبا أيضًا حماقة كبرى أخرى قبل أن يبدآ شهر العسل. طلب تشارلز من ميفانواي، مثلما يفعل العشاق الصغار، أن تكلفه بمهمة ما. كان يرغب في القيام بفعل عظيم ونبيل كي يثبت إخلاصه لها. أظن أنه كان يفكر في مهمة تتضمَّن تنانين، وإن لم يعِ ذلك على الأرجح. ولا شك أن التنانين قد خطرت ببال ميفانواي أيضًا، لكن لسوء حظ العاشقين انتهى مخزون التنانين من العالم. بَيْد أن الفكرة راقت ميفانواي، فتدبَّرَت الأمر مليًّا، ثم قرَّرَت أن تحكم على تشارلز بالإقلاع عن التدخين. فبعد أن ناقشت المسألة مع شقيقتها المفضَّلة، كانت تلك هي الفكرة الوحيدة التي تفتَّق عنها ذهن الفتاتين. بدت خيبة الأمل على وجه تشارلز لما سمع بالأمر. واقترح القيام بأي مهمة بطولية أخرى، أو تضحية تستحق أن يقدمها عند قدمَي ميفانواي. لكن ميفانواي كانت قد قالت كلمتها. وأضافت أنها ربما تفكر في أي مهمة أخرى، لكن طلب الإقلاع عن التدخين سيظل ساريًا على أي حال. ثم أنهت النقاش في المسألة بترفُّع يليق بماري أنطوانيت.

وهكذا لم يعُد التبغ؛ الصديقُ الوفي لجميع الرجال، موجودًا بجانب تشارلز كي يعلِّمه الصبر ودماثة الخُلق يومًا بعد يوم، وبدأت طباعه تنحو نحو الأنانية وسرعة الغضب.

استقرَّا بعد ذلك في ضاحية بمدينة نيوكاسل، بيد أن هذا المكان لم يناسبهما أيضًا، فعدد السكان هناك كان محدودًا ومعظمهم أناس في منتصف العمر؛ لذا اضطرا إلى الاكتفاء بصحبة بعضهما بعضًا أغلب الوقت.

كانت معرفتهما بالحياة قليلة، ومعرفة كلٍّ منهما بالآخر أقل، ولم يعرفا شيئًا على الإطلاق عن نفسيهما. بالطبع تشاجرا، وكان كل شجار يخلِّف وراءه جرحًا أشد إيلامًا. لم يجدا بجوارهما صديقًا طيِّبًا ذا خبرة يضحك على تصرفاتهما. فكانت ميفانواي تدوِّن أحزانها كلها في مذكرات سَميكة، ما كان يفاقم مشاعرها سوءًا؛ ولم تكُن تمضي عشر دقائق في الكتابة حتى يسقط رأسها الجميل الأبلَه فوق ذراعَيها وتُبلِّل دموعها صفحات الكتاب، ومكانه الأنسب، في رأيي، هو نيران المدفأة؛ أما تشارلز فكان يتلكأ في المكتب المُعتم بعد انتهاء العمل وانصراف الموظفين، ويُمعن التفكير في توافِه الأمور حتى تتضخَّم وتتفاقم.

ثم حلَّت النهاية في مساء أحد الأيام بعد وجبة العشاء، عندما صفع تشارلز ميفانواي في خضم انفعاله أثناء جدال سخيف. كان تصرُّفه أبعَد ما يكون عن تصرُّف رجل مهذَّب، وقد خجل من نفسه بشدة لحظة ارتكابه لهذا الفعل، كما ينبغي له. العذر الوحيد الذي يمكن ذكره لصالحه هو أن الفتيات اللاتي يتمتَّعن بجمال يكفي لأن يدفع كل مَن حولهن إلى تدليلهن منذ الطفولة قد يصِرن في بعض الأحيان مستفزات إلى أقصى درجة. هرعت ميفانواي إلى حجرتها وحبست نفسها داخلها. ركض تشارلز خلفها كي يعتذر، لكنه بلغ الباب في لحظة أن صفقته في وجهه.

كان كفه قد لامسها بالكاد. ومعروف أن عضلات الفتى تتحرك أسرع من أفكاره. لكن ميفانواي عدتها ضربة عاتية. وصارت تحدِّث نفسها بأن هذا ما آلت إليه الأمور! وهكذا ينتهي حب الرجل.

قضت نصف الليل تكتب في مذكراتها الغالية، ما نتج عنه أن نزلت صباحًا من غرفتها شاعرةً بمرارة تفوق ما شعرت به عندما صعدت إليها. وكان تشارلز قد قضى الليل كله يتجوَّل في شوارع نيوكاسل، بَيْد أن ذلك لم يخفِّف عنه في شيء. لقيها باعتذار يصحبه عذر، ما انطوى على سوء تخطيط منه. بالطبع ركزت ميفانواي على العذر، فعاودا الشجار من جديد؛ قالت إنها تكرهه؛ ولمَّح هو إلى أنها لم تحبه قطُّ، فردَّت عليه محتدَّة بأنه هو الذي لم يحبها قطُّ. ولو تدخَّل أحدٌ بينهما في تلك اللحظة وقرع رأسيهما ثم اقترح أن يتناولا طعام الإفطار أولًا، لانتهت المسألة دون ضرر كبير، لكن تأثير ليلة مؤرقة على أمعاء خاوية أسفر عن نتائج كارثية. كانت كلماتهما تقطر سُمًّا، وصدَّق كلٌّ منهما أن الآخر يقصد ما يقوله. وفي عصر ذلك اليوم، أبحر تشارلز من ميناء هال على سفينة متجهة إلى رأس الرجاء الصالح، وفي مساء اليوم نفسه، وصلت ميفانواي إلى بيت أهلها في بريستول حاملة حقيبتين وأخبرتهم بإيجاز أنها انفصلت عن تشارلز إلى الأبد. وفي صباح اليوم التالي، كان كلٌّ منهما يفكِّر في كلام يطيِّب به خاطر الآخر، لكن صباح اليوم التالي كان الأوان قد فات منذ أربع وعشرين ساعة.

بعد ذلك بثمانية أيام، ارتطمت سفينة تشارلز بسفينة أخرى قبالة سواحل البرتغال ما أدَّى إلى غرق الأولى، وافترض الجميع أن كل مَن كانوا على متنها قد قضوا نحبهم. قرأت ميفانواي اسم تشارلز ضمن أسماء المفقودين؛ فتبدَّدَت بقايا الطفولة بداخلها، وصارت تعرف أنها امرأة أحبَّت من أعماق قلبها، ولن تحب مجددًا أبدًا.

ومن حُسن الحظ، أنقذ مركب تجاري صغير تشارلز ومسافرًا آخر، ورَسَا بهما في الجزائر. عندئذٍ علم تشارلز بخبر موته، وخطر له ألا يعلن عن نجاته. فمن ناحية، سوف يحل هذا الوضع مشكلةً كانت تؤرِّقه. كان يثق أن أباه سوف يتولى تسليم تَرِكَته الصغيرة إلى ميفانواي، وربما أضاف إليها بعض المال من جانبه، وسوف تصير هي حُرَّة إن أرادت الزواج مجددًا. كان مقتنعًا أنها لم تعُد تهتم بأمره وأنها شعرت بارتياح حين قرأت خبر موته. وقرَّر أن يبدأ حياة جديدة وأن ينساها.

واصل تشارلز رحلته نحو رأس الرجاء الصالح، وما إن بلغها حتى حاز مكانة متميزة في وقت وجيز. كانت المستعمرة في بدايتها، وكان المهندسون محل ترحيب، وتشارلز كان بارعًا في عمله. وجد الحياة هناك مشوِّقة ومُمتِعة. ناسَبَه العمل في المناطق الداخلية الخطرة والوعرة من البلاد، ومرَّ الوقت عليه سريعًا.

لكن عندما ظنَّ أنه سينسى ميفانواي لم يأخذ في الحسبان طبيعة شخصيته، التي كانت في جوهرها شخصية نبيلة حقًّا. وهناك، وسط السهول الأفريقية المنعزلة، وجد نفسه يحلم بها. وعاودته ذكرى وجهها الجميل وضحكتها المرِحة في كل وقت وحين. أحيانًا كان يلعنها صراحةً، لكن ذلك لم يعبِّر إلا عن استيائه وألَمه النابعَين من تفكيره بها؛ كان يلعن نفسه وحماقته في حقيقة الأمر. وخفَّف بُعده عنها من تأثير سرعة غضبها وطابعها الطفولي المتذمِّر فصارت سمات تزيد من جاذبيتها ليس إلا؛ وإذا كنا سنعد النساء بشرًا لا ملائكة، فمن المؤكد أنه أضاع من يده امرأة لطيفة حقًّا وجديرة بالحب. صار تشارلز يتمنى أن تكون بجانبه الآن، بعدما أضحى رجلًا في استطاعته تقدير قيمتها، لا مجرَّد صبي أحمق وأناني. كانت هذه الفكرة تراوده وهو جالس يدخِّن على باب خيمته، وحينئذٍ كان يتحسَّر على أن النجوم التي تطل عليه من عَلٍ ليست النجوم التي تزيِّن سماءها، فلو كانت النجوم نفسها كان سيشعر بأنه أقرب إليها.

قد لا يصدِّق كثير من الشباب أن المرء يزداد عاطفية كلما زاد عمره؛ على الأقل هذا ما يحدث لبعضنا؛ أقلنا حكمة على الأرجح.

في إحدى الليالي حلم بها حلمًا بالغ الوضوح. رآها تأتي إليه وتمد له يدها، فأمسك بها ثم ودَّع بعضُهما بعضًا. كانا يقفان على المنحدر حيث التقيا أول مرة، وكان أحدهما سيمضي في رحلة طويلة، بَيْد أنه لم يكن متأكدًا مَن منهما تحديدًا.

في المدينة، يضحك الناس على الأحلام، لكن عندما نبتعد عن الحضارة ننصت عن طِيب خاطر إلى الحكايات الغريبة التي تهمس لنا بها الطبيعة. تذكَّر تشارلز سيبون هذا الحلم عندما استيقظ صباحًا.

قال لنفسه: «إنها تموت، لقد جاءت كي تودِّعني.»

قرَّر أن يرجع إلى إنجلترا من فوره؛ فربما لو سارع بالعودة يصل في الوقت المناسب لتقبيلها مرَّة أخيرة. لكنه لم يستطع المغادرة في ذاك اليوم، فثمة عمل ينبغي له إتمامه؛ وعلى الرغم من أن تشارلز كان، ولا يزال، عاشقًا، فإنه صار أيضًا رجلًا، وأصبح يدرك أنه لا يصح إهمال العمل إبدًا حتى إنْ كان ذلك تلبيةً لنداء القلب. لذا مكث يومًا أو يومين، وفي الليلة الثالثة حلم بميفانواي مجددًا، وفي هذا الحلم كانت ترقد داخل الكنيسة الصغيرة في بريستول، التي كثيرًا ما جلس فيها بجوارها في صباحات أيام الأحد. سمع صوت أبيها يقيم مراسم الدفن فوق جسدها، وكانت أختها الأقرب إليها تجلس بجواره وتبكي بصوت خفيض. حينئذٍ أدرك تشارلز أنه لا داعي إلى استعجال رحلة العودة. وقرَّر البقاء كي يُنهي عمله. وحينما يفرغ منه، سوف يعود إلى إنجلترا. فهو راغب في أن يقف مرَّة أخرى على المنحدرات، التي تشرف على تلك القرية الصغيرة بمقاطعة كورنوال، حيث التقيا أول مرة.

وهكذا بعد بضعة أشهر، سار تشارلز سيبون، أو تشارلز دينينج كما صار يدعو نفسه، إلى نُزل كروملك أرمز، الذي دخله قبل ست سنوات حاملًا حقيبته القماشية على ظهره، وطلب غرفة معبرًا عن رغبته في الإقامة بالقرية لبعض الوقت؛ كانت بشرته بلون البرونز وبدا أكبر عمرًا حتى لم يعُد من السهل التعرُّف عليه، لا سيما من قِبل أولئك الذين لم يعرفوه جيدًا.

في المساء، خرج يتمشى سالكًا طريقه نحو المنحدرات. وفي ضوء الشفق بلغ تلك البقعة الصخرية التي أطلق عليها أهل كورنوال الواسعو الخيال اسم «مرجل الساحرات». كانت تلك هي البقعة التي رأى عندها ميفانواي قادمة نحوه من البحر للمرة الأولى.

أبعد الغليون عن فمه، واتَّكأ على صخرة، بدَت تُحاكي وجه صديق قديم، وشرع يحدِّق في الدرب الضيق أدناه، الذي ازداد ضبابية في هذا الضوء الخافت. وبينما يتطلَّع إلى الأسفل، رأى طيف ميفانواي يصعد الدرب ببطء قادمًا من البحر، ثم يتوقَّف أمامه.

لم يشعر بخوف. فقد توقَّع أن يراه. ومجيئها كان متممًا لأحلامه. بدَت أكبر سنًّا وأكثر رصانة، بَيْد أن وجهها بات أجمل، ربما بفعل هذه التغيرات.

تساءلَ، تُرى هل ستتحدث إليه، لكنها اكتفت بالتطلُّع نحوه بعينَين حزينتَين؛ وظلَّ هو واقفًا هناك تحت ظِل الصخور دون حركة، حتى غابت في أفق المغيب.

لو قرَّر حينها أن يحكي ما حدث لصاحب النُّزل، أو حتى أبدى استعدادًا لسماع حديث العجوز، الذي كان محبًّا للثرثرة، ربما علم أن أرملة شابة تُدعى حرم السيد تشارلز سيبون قدمت مؤخرًا، بصحبة أختها الكبرى غير المتزوجة، إلى المنطقة، واستأجرت منزلًا ريفيًّا صغيرًا في موقع منعزل بالوادي على بُعد ميل من القرية، بعدما تُوفي مستأجره السابق، وأن نزهتها المسائية المفضَّلة هي الذهاب إلى البحر عَبْر الممر المنحدر الذي يمر بصخرة «مرجل الساحرات».

ولو قرَّر تتبُّع طيف ميفانواي إلى الوادي، لعرف أنه بعدما تجاوز «مرجل الساحرات» شرع يركض سريعًا حتى بلغ بابًا مفتوحًا، ثم ألقى بنفسه بين ذراعَي طيف آخر قدم مسرعًا للقائه.

قالت المرأة الأكبر سنًّا: «ماذا دهاكِ يا عزيزتي؟ أنت ترتجفين مثل ورقة شجر.» ثم سألَتْها: «ماذا حدث؟»

أجابتها ميفانواي: «لقد رأيتُه.»

سألت الأخت: «مَن رأيتِ؟»

«تشارلز.»

«تشارلز!» كرَّرت المرأة الأخرى الاسم وهي تتطلَّع إلى ميفانواي مثلما يتطلَّع المرء إلى امرأة مجنونة.

قالت ميفانواي موضحةً بصوت وجل: «أقصد رأيت روحه». ثم استطردت: «كان واقفًا تحت ظِل الصخور في البقعة نفسها التي التقينا فيها أول مرة. بدا أكبر سنًّا ومُثقَلًا بالهموم؛ آه يا مارجريت، كان وجهه ينطق بالحزن والعتاب.»

قالت أختها وهي تقودها إلى الداخل: «عزيزتي، إنكِ في حالة اضطراب شديدة. ليتنا لم نعُد قطُّ إلى هذا البيت.»

ردَّت ميفانواي قائلة: «لكني لم أخَف، كل ليلة كنت أتوقَّع أن أراه. ويُسعدني حقًّا أنه أتى. ربما يأتي مرَّة أخرى، كي أطلب منه السماح.»

وفي الليلة التالية، أصرَّت ميفانواي على الخروج في نزهتها المعتادة، متجاهلةً نصائح أختها ومخالفةً رغبتها، وفي ساعة الغسق نفسها، انطلق تشارلز من النُّزل.

رأته ميفانواي مرَّة أخرى واقفًا تحت ظِل الصخور. كان تشارلز قد عقد عزمه على التحدُّث إليها إذا تكرَّر الأمر مجددًا، لكن عندما وقعت عيناه على طيفها الصامت، يكتنفه الضوء المنحسر، توقَّف وأخذ يحدِّق فيه وخانته شجاعته.

لم يُراوده أدنى شك في أن الروح الواقفة أمامه هي روح ميفانواي. فالمرء قد يظن الأشباح التي يزعم الآخرون رؤيتها أوهامًا، تدل على خفة العقل، لكنه يعرف يقينًا أن الأشباح التي يراها حقيقية، وكان تشارلز قد أقام طوال السنوات الخمس الماضية بين أناس يؤمنون بأن الموتى يبقون بينهم. مرَّة استجمع شجاعته وحاول التحدث، لكن عندما شرع في ذلك أجفل طيف ميفانواي فلم تخرج من شفتَيه سوى تنهيدة، وحينما سمعها الطيف استدار وسار مجدَّدًا عبر الدرب المؤدِّي إلى الوادي، تاركًا تشارلز يحدِّق في أثره.

لكن في الليلة الثالثة، بلغ كلاهما بقعة التلاقي بإصرار لا يلين على الحديث.

تحدَّث تشارلز أولًا. فعندما اقترب منه طيف ميفانواي، وعيناه الحزينتان شاخصتان نحوه، خطا مبتعدًا عن ظلال الصخور ووقف أمامه.

قال: «ميفانواي!»

ردَّ طيف ميفانواي هاتفًا: «تشارلز!»

تحدَّثا بهمسات وجلة تناسب الموقف، وحدَّق كلٌّ منهما في الآخر بنظرات مُفعَمة بالأسى.

سألته ميفانواي: «هل أنت سعيد؟»

ربما يبدو سؤالها هزليًّا بعض الشيء، لكن علينا تذكُّر أن ميفانواي ابنة مبشر إنجيلي تقليدي، وقد تربَّت على معتقدات لم يكن قد عفَّاها الزمن وقتها.

جاء الرد الحزين: «سعيد بقدر ما أستحق السعادة»، شعرت ميفانواي برجفة تجتاح قلبها، فإجابته لم توحِ بأنه يستحق الكثير من السعادة.

تابع تشارلز قائلًا: «كيف أكون سعيدًا بعدما أضعتكِ من يدي؟»

الآن صار لكلماته وَقْع طيِّب على أذنَيها. فقد بدَّدَت، بادئ ذي بدء، من قنوطها حيال مستقبل تشارلز. لا شك أن معاناته الحالية شديدة، لكن لا يزال ثمة أمل في إنقاذه. ثانيًا، كان كلامه لطيفًا، رغم أنه شبح، ولا أظن أن ميفانواي كانت ستنفر من تبادل القليل من عبارات الغزل مع شبح تشارلز.

سألته ميفانواي: «هل تسامحني؟»

رد تشارلز بنبرة دهشة وجلة: «أسامحك؟!» ثم أضاف: «هل تسامحينني أنتِ؟ لقد كنتُ أحمقَ فظًّا، لم أستحق حبك.»

يا لها من روح راقية ومهذَّبة! لقد نسيت ميفانواي أن تخاف منها.

ردَّت ميفانواي: «كلانا يستحق اللوم.» هذه المرة، قلَّت نبرة الإذعان في صوتها. ثم أضافت: «لكني أنا من أتحمَّل القَدر الأكبر من اللوم. كنت طفلة سيئة الطبع. لم أعرف قطُّ كم أحببتُك.»

ردَّد تشارلز عبارتها: «كنتِ تحبينني!»، وتمهل إذ يتلفظ بتلك الكلمات كأنما كان مذاقها حلوًا في فمه.

ردَّت ميفانواي: «قطعًا لم تشك في حبي لك!» ثم استطردت قائلة: «لم أتوقف قطُّ عن حبك. وسوف أظلُّ أحبك دائمًا وأبدًا.»

اندفع طيف تشارلز قُدمًا راغبًا على ما يبدو في احتواء طيف ميفانواي بين ذراعَيه، لكنه توقف فجأة على بُعد خطوة أو خطوتين منها.

ثم ركع أمامها حاسر الرأس وقال: «امنحيني بركتك قبل أن تغادري.»

حقًّا في وسع الأشباح أن تصير في غاية اللطف إنْ أرادت ذلك. انحنت ميفانواي في تكرُّم نحو الطيف المتضرِّع، وبينما تفعل ذلك لمحت عيناها شيئًا على العشب بجواره، وهذا الشيء كان غليون مرشومي واضح اللون. لم يكن ثمة شك في أنه غليون، حتى في ذاك الضوء الخافت؛ كان يلمع على الأرض حيثما سقط من جيب صدار تشارلز عندما ركع على ركبتيه.

تتبَّع تشارلز نظرة ميفانواي ورآه أيضًا، واسترجع ذكرى حظر التدخين الذي كان مفروضًا عليه.

مدَّ يده غريزيًّا والْتَقط الغليون ثم حشره مجددًا في جيبه، دون أن يفكر في عبثية هذا الفعل، أو في كونه ينطوي على اعتراف صريح؛ وعندئذٍ اجتاح عقل ميفانواي فيض من الإدراك المختلط بالحيرة، والخوف الممزوج بالبهجة. شعرت أن عليها فعل أمر من أمرين، إما أن تضحك أو تصرخ وتظل تصرخ، بَيْد أنها شرعت تضحك. جلجلت ضحكاتها بين الصخور، في حين نهض تشارلز في اللحظة المناسبة كي يلتقط جسدها المتهاوي بين ذراعيه.

بعد عشر دقائق سارت الآنسة إيفانز الكبرى نحو باب المنزل بعدما سمعت صوت خطوات ثقيلة. ورأت ما حسبته روح تشارلز سيبون، يمشي مترنحًا تحت ثقل جسد ميفانواي الغائب عن الوعي، فارتعبت من المشهد بطبيعة الحال. بَيْد أن تشارلز طلب منها إحضار بعض البراندي، وهو طلبٌ بشري طبيعي، وكان لزامًا عليها الاعتناء بميفانواي، وقد حفظ ذلك عقلها من الانجراف نحو أمور تقود إلى الجنون.

حمل تشارلز ميفانواي إلى حجرتها ومدَّد جسدها على السرير.

ثم همس إلى الآنسة إيفانز الكبرى: «سأتركها معك.» وأضاف: «من الأفضل لها ألا تراني حتى تسترد وعيها كاملًا. لقد تعرَّضَت لصدمة.»

انتظر تشارلز في غرفة الاستقبال المظلمة لفترة بدَت له أطول من اللازم. لكن الآنسة إيفانز الكبرى عادت أخيرًا من غرفة ميفانواي.

وسمع منها الكلمات المحببة: «لقد أصبحت بخير الآن.»

فقال: «سوف أدخل لأراها.»

صاحت الآنسة إيفانز محرجةً: «لكنها ترقد في السرير.»

لكن تشارلز ضحك فحسب. فاستدركت الآنسة إيفانز: «آه، طبعًا، تفضَّل …»

ثم جلست الآنسة إيفانز الكبرى، بعدما صارت وحدها، تحاول إقناع نفسها بأنها لم تكُن تحلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤